أمام التوحش السياسي تثمَّن المبادرات

TT

مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لرأب الصدع بين الدوحة والقاهرة تثمر نتائج إيجابية، يراها المراقب أمامه يوميا منذ أن بدأت.. التفاصيل كثيرة، وكذلك المنقصات، إلا أن المبادرة، مثلها مثل ما قام به خادم الحرمين الشريفين منذ مطلع هذا القرن في ملفات مختلفة، تنم عن مخزون سياسي ثاقب البصيرة، فلا خلاف على أن المنطقة برمتها، وأكاد أقول العالم، تعيش فترة من التوحش السياسي غير مسبوقة، نوقشت أسبابها في أكثر من مكان، واختلف أو اتفق على دوافعها، فإنها تسبب صداعا يصل إلى مرحلة تفتيت الدول مع صعود وانتشار «سياسات الخوف». التناقض بين القاهرة والدوحة تناقض فرعي وهامشي.. هناك ما يجمع القاهرة بالرياض بالدوحة ببقية عواصم الخليج.. وأيضا عواصم عربية أخرى، فكل تلك العواصم بينها وبين الإرهاب وتفتُّت الدولة تناقض جوهري. من هنا، فإن تجاوز التناقض الفرعي من أجل مواجهة التناقض الجوهري، هو صلب مبادرة الملك عبد الله، وهو أيضا الرافعة التي يبنيها الملك مع عدد من العواصم؛ مفادها: دعونا من الاهتمام بالتناقض الفرعي إلى الاهتمام بالتناقض الجوهري، الذي يهدد الجميع الآن وفي المستقبل.

المشهد الدولي يقدم لنا صورة واضحة من الفوضى، فهناك في الدول الكبرى من يرى أن الشرق الأوسط لم يعد من المناطق الاستراتيجية المهمة، في ضوء تراكم المشكلات وصعوبة حلها، وفي ضوء الوضع الاستراتيجي والمالي والعسكري لتك الدول الغربية.

ويكتمل المشهد، أو يكاد، من خلال قراءة ما يحدث.. لم تعد الحروب في السنوات العشر الأخيرة حرب دولة ضد أخرى. لقد أصبحت الحروب حروبا اجتماعية بينية، وهي اليوم تصل إلى أكثر من 30 حربا داخلية؛ شديدة أو متوسطة الشدة أو شبه خاملة يمكن أن تنشط. من بين تلك الحروب الاجتماعية الداخلية ما يحدث في كولومبيا، ونيجيريا، والمكسيك، وباكستان، والعراق، وسوريا، والصومال، والسودان، واليمن، ولبنان، وليبيا، وأوكرانيا، وإسرائيل.. مصر – للتذكير - في بعضها فقط. فالمشهد الاستراتيجي عميق التغيير، معظم تلك الدول المنتشرة على مساحة واسعة من اليابسة تحارب اليوم أعداء غير تقليديين يسميهم البعض «إرهابيين»، بل تعاني دول غربية من شكل من أشكال هذه الحروب منخفضة الشدة داخل حدودها. الأسوأ من تلك الحروب الداخلية يقع في منطقتنا؛ فالحرب في سوريا وحدها، حتى اليوم، حصدت 200 ألف من الضحايا المباشرين، وملايين من المشردين. معظم الغرقى أو الناجين من سفن الموت المتجهة إلى أوروبا من هذه المنطقة.. مليارات الدولارات تقتطع من سياقات التنمية إلى سياقات الحروب.. تحرم في مسيرتها عددا أكبر من البشر من التنمية المستحقة..

من هنا تجب قراءة مبادرة الملك عبد الله؛ الإصرار على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التدهور الحاصل، وسد الذرائع لمحاصرة انتشار الفوضى، وإيجاد، بعد ذلك، رافعة عربية يشارك فيها كل المستفيدين من الاستقرار والتنمية، لمواجهة هذه الفوضى التي تسببها «سياسات الخوف».

بعض الإعلام وبعض السياسيين يغرقون في التفاصيل، مستفيدين من وعي كاذب لدى الكثيرين، لتحويل الترهات إلى «قضايا»، كما أن بعض القوى الإقليمية ترغب في الاستفادة من ذلك الوعي الكاذب للتضليل، كالقول إنها الوحيدة (مع من تختار من مناصريها) التي تقف متصدية لإسرائيل، في تلميح لا يخفى على اللبيب، إلى «تقاعس» آخرين! وذلك جزء من «سياسات التخويف». التطرف الأخرق في السياسة، كما هو في المجال الشخصي، يؤدي إلى نتائج خرقاء. عودة النظام إلى بعض المساقات العقلانية بعد الفوضى، ليست عملية سهلة، والتفكير في «اليوم التالي» من أهم مقومات القيادة التاريخية.. من هنا، فإن مبادرة الملك عبد الله، واستجابة الشيخ تميم والرئيس السيسي، خطوة في طريق تخطي التناقض الفرعي، والتركيز على التناقض الجوهري، والنظر بجدية لليوم التالي لإيجاد رافعة سياسية واقتصادية واستراتيجية عربية، من أجل، أولا، وقف التدهور، وثانيا بناء توافق عريض مبني على معلومات وحقائق ومصالح على الأرض، لا على هوى وتخرصات.

المعلومات والحقائق على الأرض أن هناك تآكلا سريعا للدولة في منطقتنا، وأن هناك فشلا كبيرا، مع نجاحات محدودة بعد ربيع العرب، وأن ما يجري هو صيرورة لم نرَ بعدُ نهايةً لها، وأن الإرهاب يتوحش وينتشر ليس على أساس جماعات معزولة؛ بل على شكل جيوش صغيرة وذات فاعلية؛ فالمنطقة التي يسيطر عليها «داعش»، على سبيل المثال، جغرافيًّا أكبر من مجموع مساحة الجزر البريطانية! كما أن الارتكان إلى حرب جوية بطبيعته محدود الفعالية، كما أن الشهية الإيرانية، لأسباب خاصة بالداخل القومي الإيراني، منفتحة على توسيع النفوذ والتأثير في الجوار.

الحروب والصراعات لا يمكن تصور نهايات سعيدة لها، فهي تقبل كل الاحتمالات، ما هو أكثر فعالية بناء جدار واق ضد تأثيرها، له من القدرة ومن المناعة ويتمتع بكفاءة داخلية، ما يقاوم به الانزلاق للصغائر. هذا الجدار هو ما تسعى المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين إلى بنائه، ولها من القدرة الدبلوماسية والموقع التاريخي ما يمكنها من أن تقود تلك الجهود إلى النجاح. ولكن لنتذكر أن الأمر سهل القول صعب التحقيق، فأكبر نقاط ضعف الصف العربي هو الاعتماد على الشخصانية، وتغليب الخلافات الصغيرة، بعيدا عن المأسسة، والاجتهاد المنعزل بدل الاجتهاد الجماعي الذي يحدد المخاطر ويرسم طرق مواجهتها.

وحتى تكتمل الصورة، يرى البعض أن تلك الجهود الساعية إلى التوافق، من المستحسن أن تمتد إلى أنقرة.. نعم هناك بعض الاختلاف، لكنه أيضا يقع، إن أحسنّا النية، في ملف التناقض الفرعي، لأن ملفات التوافق الاستراتيجية أكبر من ملفات الاختلاف. وتقديري أن وفاقا عربيا من خلال المحور الجديد، العربي - التركي، قد يكون أكثر صلابة وأقدر على الفعل الإقليمي والدولي لمواجهة «سياسات الخوف».. هنا بالذات تأتي جهود قطر أيضا، فهي تستطيع، من خلال توزيع الأدوار المستنير، أن تلعب دورا في سبيل تجسير ما يمكن تجسيره في صفوف المستفيدين من الاستقرار والمتضررين من الفوضى، مرورا بعد ذلك بتصليب الموقف العربي للخروج من هذا النفق الذي لن يمد أحد، خارج المنظومة العربية، اليد للمساعدة في اجتياز شروره.

آخر الكلام:

في العمل الاستراتيجي العربي يجب عدم النظر إلى الخاسر والرابح، كما يحاول البعض أن يقرأ الأحداث بصبيانية، فالخاسر هو العدو المشترك، والرابح هو المصالح المشتركة، والأجيال العربية القادمة.