وبعد عشرات ألوف السنين من محاولات الإنسان الدائبة لفهم الحياة، أو على الأقل لفهم ما يكفيه لحماية نفسه من أخطارها، استطاع الوصول إلى هذا الشكل الفريد من أشكال الحكم، وهو الدولة بسلطاتها الثلاث المنفصلة، التشريعية والقضائية والتنفيذية. وكأنه كان على موعد مع الحضارة ليلتقيا معا في محطة تيرمينال التاريخ. بعد هذا اللقاء لن ينشغل بالدفاع عن نفسه، سيتفرغ للإنتاج والإبداع تاركا للدولة مهمة الدفاع عنه ضد أخطار خلق الله الذين فشلت الحضارة في التسلل إلى قلوبهم، وأخطار الطبيعة التي تفاجئه في أحيان كثيرة بأنها ما زالت تحتفظ بطابعها الوحشي.
والدولة هي المحتكر الوحيد للعنف، هي فقط ممثلة في قواتها المسلحة وشرطتها، من له الحق في حمل السلاح. وليس من حق مخلوق الحصول على وكالة عنها. كما أنه ليس من حق مخلوق يزعم تبعيته لسلطة أخرى نابعة من الأرض أو قادمة من السماء، أن يحمل سلاحا إلا هؤلاء الذين ترخص لهم الدولة بحمل سلاح للدفاع عن النفس والمال. وهذا الحق الذي اكتسبته الدولة فأصبح حقها وحدها بلا منازع، راجع إلى تحملها المسؤولية كاملة عن أمن مواطنيها.
هؤلاء الذين يتكلمون هذه الأيام عن تسليح الفئة الفلانية أو العشيرة العلانية لمواجهة خطر ما، يصيبونني بالفزع، لأنهم يفكرون طبقا لما كان سائدا عند البشر قبل الوصول إلى الدولة كشكل ونظام. إذا كانت الدولة تواجه حربا فالتصدي لهذه الحرب، هو مهمة قواتها المسلحة. إذا كانت تواجه جرائم فهذه هي وظيفة جهاز الأمن، لا داعي لاختراع العجلة.
هناك اتفاق قام بصنعه الزمن. الطرف الأول فيه هو الدولة والطرف الثاني هو المواطن. يتعهد فيه الطرف الأول بالدفاع عن المواطن وهو الطرف الثاني في مقابل أن يتخلى الأخير عن ذلك القدر من حريته الشخصية الذي يتيح له الدفاع عن نفسه. إذا تهت في الصحراء فالدولة مكلفة بأن تبحث عني بكل ما تملك من قوة. إذا فقدت طريقي في البحر أو المحيط فالدولة مسؤولة عن إعادتي سليما لأهلي.
إن مسؤولية الدولة الشاملة عن المواطن هي ما يصنع المساواة بين المواطنين، كلنا أصحاب أنصبة متساوية من عناية الدولة واهتمامها وحمايتها. وكلنا على يقين من أن الدولة بكل قواتها المسلحة ستتولى الدفاع عن مواطن واحد عندما يتطلب الأمر ذلك.. هذه هي الدولة، فقفوا لها احتراما.
من حقك أن تعتز بقبيلتك، بعشيرتك، بجماعتك، غير أن هذا الاعتزاز ليس رخصة أو مبررا لإلغاء دور الدولة، وتذكر دائما أنه في اللحظة التي تقوم فيها أنت بإلغاء دور الدولة وحقها الوحيد في احتكار العنف وانتزاعه منها، فإنك تحرم نفسك من دورها في حمايتك. هكذا تتساوى في الجرم مع أعدى أعدائها.