كان الفقيه والأزهري الجليل والمؤرخ المعروف أحمد أمين قاضيا شرعيا في فترة قصيرة جدا، وذلك في بدايات حياته العملية.. هذا قبل أن ينتقل للعمل الأكاديمي ويدرس بالجامعة. وخلال مرحلة عمله بالقضاء كان ينظر في العديد من القضايا المرفوعة من الزوج ضد زوجته وهو يطالب بتنفيذ فوري وسريع ورادع لحكم الطاعة، والمعنى هنا تحديدا إعادة الزوجة بالقوة الجبرية إلى بيت الزوجية إذا ما كانت ترفض ذلك. وقد أوضح بإسهاب أكثر من خلال سيرته الذاتية التي طرحها في كتاب بعنوان «كتاب حياتي»، وشرح فيه بتفصيل أكبر التناقض الذي كان يشعر به، وقال: «ظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها؛ كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالشرطة، ومن بعد ذلك توضع في بيت الزوج بالشرطة أيضا؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إنني أفهم أن قوة الشرطة في تنفيذ الأمور المادية، كرد قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه بالسجن، وتنفيذ حكم الإعدام، وغير ذلك من المسائل المالية والجنائية، أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالشرطة والقوة الجبرية المصاحبة لها فهذا لم أفهمه مطلقا إلا إذا فهمت حبا بالإكراه أو مودة بالسيف».
وفي هذا الأمر، أعتقد تماما أن أحمد أمين كان على حق، وعلى درجة عالية من الفهم العميق، فما الذي يأمل الزوج أن يحصل عليه لو طبق «القانون»، واستمر شعور الزوجة تجاهه كما كان؟ لا بد أن الحل السليم والإصلاح المنشود سيأتي بأي طريق آخر غير الاستعانة بقوة الشرطة الجبرية.
تذكرت ذلك وأنا أتابع الجدال المستمر في مسائل تشريعية مختلفة، ويُعتمد فيها «آراء» معينة، غافلين ومتجاهلين السيرة النبوية الشريفة لصاحب الهدي نفسه، عليه الصلاة والسلام، فهو في هذه الحالة نفسها، حينما أتته إحدى الزوجات وقالت شاكية إنها لا تطيق زوجها ولا ترغب في الاستمرار معه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: «ردي ما أعطاكِ»، فلم تكن هناك قوة إجبار ولا غير ذلك.
الإكراه والقوة الجبرية ليس الحل الناجح والناجع الوحيد دائما، فهناك حلول أخرى تتطلب النظر إلى أصل المشكلة بدلا من التعامل فقط مع الأعراض أو الفروع. المنع أو الحظر أو العقوبة أو الإجبار ليست دائما عناوين «للحل»، بل على العكس تماما، في معظم الأحيان تكون جزءا وسببا رئيسيا في تفاقم أصل المشكلة.
التطرف الشديد والإلحاد المتزايد سببه غياب الخطاب الوسطي والمتسامح، ولن يزداد الناس تدينا وقربا إلى الله بزيادة جرعة الدين في المدارس، ولا بإجبارهم على الصلاة بتهديدهم بالعصا، وكذلك الأمر؛ لن تُحل مشاكل البطالة بالإكراه على التوظيف الإجباري طالما لم يتم تأهيل المتقدمين وتدريبهم على الوظائف وتطوير حقيقي وجاد للمناهج الدراسية، لأن هذا الحل لن ينتج سوى بطالة مقنعة وتوظيف مؤقت فيه قدر عظيم من «المجاملة».
الشركة الموظفة تجامل الموظف الجديد خوفا من القانون، والموظف الجديد يجامل الشركة الموظفة مجاملة لقبض الراتب، ولكن «القناعة» تبقى غائبة في معظم مشاهد التوظيف بالإكراه. سياسات الإكراه تفتح الباب دوما «للتحايل» على القانون والنظام، والبحث عن المناطق الرمادية التي تسمح بإيجاد «حل آخر»، وليس بالضرورة أن يكون هذا الحل قانونيا ولا نظاميا. الحل في المشاركة في صناعة الحلول، وأن يكون الجميع جزءا من الحل بدلا من التعامل معهم على أنهم فقط من مسببات المشكلة، أو يُنظر إليهم ويتم التعامل معهم بالريبة والقلق والخوف والشك. هذا النوع من الحلول التي تكون بالإكراه والإجبار لا يمكن أن يأتي منه الإحساس بالمسؤولية المشتركة أو القناعة الكبرى بأن الحل للصالح العام. وإذا لم يُتخذ حل كامل لأصول المشكلة في هذه الحالات وغيرها فلن يكون غريبا أن تتبخر المشكلة من موقع يتم فيه «تطبيق القانون» إلى موقع آخر «لا مكان للقانون فيه»، وكل ذلك يدعو لإيجاد حلول يكون الكل مشاركا فيها، وإلا فما كان يُطرح أشبه بمحاولة فرض الحب بالقوة، والعودة لبيت الطاعة بالإكراه.