عام انتصار «الصيغة اللبنانية»

TT

جاء النصف الأول من العام في لبنان مفخخا بالأحزمة الناسفة والسيارات الملغومة، والنصف الآخر معارك عسكرية دموية مفتوحة في جرود عرسال وطرابلس والمنية، ومحاولات يائسة لإنقاذ العسكريين الذين اختطفهم تنظيما «داعش» و«جبهة النصرة»، في جرود عرسال. من البقاع إلى الشمال، بقي الوطن الصغير يقاوم حرائق سوريا بأرواح أطفاله وجنوده، وهي تزنره من كل جهة، فيما الأرض تهتز، والخوف يتنامى. لم تكن من مفردة على ألسن اللبنانيين أقوى ولا أكثر تكرارا من لفظة «داعش» وفعاله العظام. الكلمة التي بقيت على وقع انتصارات «داعش» في العراق وسوريا، والتوترات في طرابلس الشمالية، ومن ثم الهجوم الذي قامت به مجموعات مسلحة متطرفة في عرسال، تحاول اختراق الحدود والاستيلاء على القرى، تتحول إلى «كابوس» حارق. اقترنت بلفظة «داعش»، مفردة «الذبح» وصور السكاكين المسنونة وفيديوهات للعسكريين الذين قرر الخاطفون قطع رقابهم، بحجة أن مطالبهم بالإفراج عن معتقلين إسلاميين في سوريا ولبنان لم تنفذ.

من اليوم الثاني للسنة، تمكن انتحاري من تفجير سيارة في السوق العريضة في الضاحية الجنوبية، وكرت السبحة، بدا أن لبنانيين وللمرة الأولى يلبسون الأحزمة القاتلة، ويفجرون أنفسهم بمواطنيهم، وفي فبراير (شباط) مع التفجير المزدوج للسفارة الإيرانية، كانت الذروة. «ثقافة الموت» ليست من شيم اللبنانيين ولا ضمن مفاهيمهم، حتى الشهر السادس، بقي الانتحاريون قادرين على اجتياز الحدود وتنفيذ خططهم الجهنمية. لكن تميز العام أيضا بقدرة غير مسبوقة لأجهزة الأمن اللبنانية على إلقاء القبض على إرهابيين خطرين، وفكفكة شبكات، ومطاردة مطلوبين دوليين. إشارات واضحة على أن التعاون الغربي، وخصوصا الأميركي الاستخباراتي، فعل ما لم يكن متوقعا. خيمة المعلومات التي أمد بها الغرب لبنان، حمت المدنيين، واقتلعت شبكات كانت تظن أنها رسّخت حضورها في بلاد الأرز، وصار انهياره قاب قوسين.

سنة جعلت الصيغة اللبنانية تتأرجح في مهب الريح. مجموعات مسلحة تنتمي للنصرة حينا ولـ«داعش» حينا آخر، تحاول الاستيلاء على الشمال، ومجموعات أخرى تزج الجيش بمعارك لا تنتهي في البقاع.

بلا رئيس للجمهورية منذ 7 أشهر، مؤسسات شبه مشلولة، تمديد لمجلس النواب، لبنان يبقى في عين الصراعات الإقليمية والدولية، التي تتواطأ على تركه مرتجّا، مهددا دون أن تتوافق على إخراجه من معادلاتها، وتوازناتها وألاعيبها، التي تكلف المنطقة عشرات القتلى مع إشراقة كل شمس.

لبنان الرهينة يقاوم، يعمل على تقطيع الوقت الضائع، بما يمكن أن يفيد العباد. وزير الصحة عرف كيف يختار لحظته، ملأ الفراغ بكشف فضائح تلوث الغذاء والماء، وبإغلاق المسالخ والكشف على المستودعات المخزية. قضايا لبنان بفعل النجاح الأمني لقواه العسكرية، تحولت في الأشهر الأخيرة، إلى مفاوضات من أجل إطلاق العسكريين المخطوفين مع «داعش» و«النصرة»، ومحاولات متواصلة لتهدئة عائلاتهم التي تقطع الطرقات، تحت طلب الخاطفين، وبفعل تهديداتهم. نجحت الحكومة وبعض وزرائها بإخراج المواطنين من كابوس «الموت» إلى الحلم بحياة نظيفة، ومأكولات تتوافر لها المواصفات الصحية، وهواء نقي، والنقاش حول حلّ مشكلة النفايات، والخروج من الأزمة الاقتصادية. قد تكون مجرد أحلام، وفقاعات صابون، أو زبد تذروه أمواج عاتية قادمة، لكن الانتظار السعيد أفضل من العد العكسي في غياهب الظلام.

ثمة ميل تشاؤمي دائما عند الكلام عن نهايات الأعوام، لكن لبنان المتأرجح على شفا هاوية، يقف برجل واحدة، ويقاوم الانزلاق لا بل ويسعى لفنادق ممتلئة زوارا وسياحا يتعطشون للمرح، وأسواق تعرض مبتكراتها على وقع ضجيج الأطفال وعازفي الآلات الموسيقية.

السنة التي بدأت طلائعها بالأحزمة الناسفة انتهت بزينة الأعياد التي ملأت مدنا كانت العام الماضي تتحفظ وتخشى المتطرفين وردود أفعالهم العنيفة. طرابلس وصيدا، قررتا الانضمام إلى موكب المحتفلين بعد أن كانت شجرة الميلاد الواحدة العام الماضي، تحتاج سيارة شرطة لحمايتها ممن يضرمون فيها النيران. وجبيل التي تقدمت على باريس، جذبت لبنان من شماله إلى جنوبه في عرس، غير مسبوق.

غلبت إرادة الحياة ثلة تظن القتل هدفا والموت خلاصا، لعلها جولة تتلوها أخرى. مع ذلك، يستحق لبنان وهو يعزف أنشودة الدفاع عن صيغته التسامحية، التي تصلح نموذجا لمنطقة لم تجرّب غير سطوة فئة على أخرى، تشجيعا ودعما، ممن في هذا العالم، لا يزالون يؤمنون بأن المنطقة العربية فسيفساء تعددي باهر، وبأن ما صنعه التاريخ لا يجوز أن تحطمه الهستيريا.

حوار تيار المستقبل وحزب الله، الذي أعلن عنه مع نهاية العام، قد لا يوصل إلا إلى دهليز جديد، لكنه ممر على أي حال، موطئ عبور. تعب الجميع من الأبواب الموصدة، ومن الاستحالات واللاءات العقيمة. ينبجس عطش محموم إلى بريق أمل، إلى بداية خيط مهما كان واهيا للإمساك به والسير في العام الجديد. كل هذا القتل، هذه الأمواج من النازحين الملهوفين، والهكتارات الخربة، والآثار المدمرة، وصمة عار علينا. لا شيء يشي بأن العام الآتي قد يكون خيرا من سابقه إلا الإنهاك المرتسم على وجوه أكلها الغبار ونهشها الظلم والأسى.