الحيدري والتشيع

TT

تاريخ الإسلام حافل بالانقسامات منذ أول انطلاقته. وكان المؤمل أن العصر الحديث، عصر العقلانية، سينجح في رتق هذه الانقسامات الطائفية ويبدد كل ما علق بها من اختلاقات وبدع، ويجعل من المسلمين كتلة موحدة متنورة تقف في وجه كل هذه الأخطار التي تحيط بعالمنا. ولكن المؤسف أن ما حصل هو زيادة وتعميق لهذه الانقسامات. يأتي في مقدمتها المؤمنون بالإرهاب والمؤمنون بالاعتدال. وحتى المؤمنون بالإرهاب انقسموا على أنفسهم؛ الحوثيون يقاتلون «القاعدة» و«القاعدة» تسفه «داعش» و«داعش» يتحدى «النصرة»، ولا أدري ماذا بعد!

والآن خرج علينا هذا الكاتب الأكاديمي الذي كرس حياته لدراسة التشيع بكتاب موسوعي جديد يقرب من 600 صفحة من القطع الكبير يقسم فيه الشيعة أيضا إلى معسكرين؛ هما الشيعة الصفويون الفرس والشيعة العروبيون العرب. نبيل الحيدري مواطن عراقي شيعي شغله التاريخ الإسلامي والشريعة فرحل إلى قم لدراسة ذلك، ولكنه هناك لاحظ هذا التحامل العنصري على العرب والتشهير خصيصا بالخليفة عمر بن الخطاب لاحظه في المواكب الحسينية وتقزز منه. ففي العراق اعتدنا الاعتزاز بالخلفاء الراشدين الأربعة وبما قام به الخليفة الثاني.

لم يستطع الحيدري أن يتحمل ما رآه فترك قم وعاد لبغداد، ورحل منها إلى لندن حيث أكمل دراسته لتاريخ الإسلام. وقد كرس وقتا طويلا لتعقب هذا النزاع وهذا التحامل الصفوي على العرب والسنة. انتهى به المطاف بهذا الكتاب الموسوعي الضخم.

«التشيع العربي والتشيع الفارسي» دراسة تعتمد على مصادر أساسية تنيف على 1255 كتابا. يتعقب المؤلف أسرار هذا النزاع وحلقاته، ابتداء من أسى العراقيين وندمهم على مقتل الحسين والانطلاق للالتفاف حول آل البيت. بيد أن منحاهم هذا تحول على يد الفرس القوميين إلى حرب عقائدية ضد العرب الذين فتحوا فارس وقوضوا عروش ملوكها. وطبعا جرى كل ذلك في زمن الخليفة عمر بن الخطاب وأوامره، فأصبح الهدف للطعن.

رغم أن البويهيين الفرس الذين مسكوا برقبة بني العباس عند انحلال الحكم العباسي قد وضعوا بذور الحملة، ويستشهد المؤلف هنا بما صدر في عهدهم من الكتب المغالية ضد السنة والخلفاء، فإنه يرى أن الحملة الشوفينية قد شنت حربها في عهد إسماعيل الصفوي عام 1501 الذي فرض التشيع على إيران السنية بالسيف والإرهاب.

كواحد من المؤمنين بالجيوبوليتكس، السياسة الجغرافية، آمنت بأن السيطرة على البحر المتوسط وراء جل ما دار في عالمنا من منازعات. وجدت ضالتي هنا في إشارة الحيدري للاتصالات التي جرت بين الصفويين المسلمين والبرتغاليين النصارى للتعاون في ضرب مسلمين آخرين، العثمانيين! العركة على الكعكة، شواطئ البحر المتوسط. والدين على الرف! تمسك آل عثمان بالسنة الحنفية قاعدة فكرية في الحرب ضد الصفويين الذين اتخذوا من التشيع البويهي قاعدة فكرية مضادة في تعبئة الجيوش لمحاربة العثمانيين الذين سدوا في وجههم الطريق للبحر المتوسط.

هذا وغيره من النفائس العديدة الجديرة بالملاحظة والدرس يوردها الحيدري في هذا الكتاب القيم.