منطق عشوائيات القبح

TT

يناقش المثقفون المصريون على مواقع التواصل الاجتماعي بالإنجليزية حادثة بسيطة المظهر لكنها قمة جبل ثلج عائم جسمه الأكبر مأساة تاريخية.

بطلة القصة أستاذة جامعية عرضتها في صحيفة مصرية بلغة إنجليزية تميلني للاعتقاد بتلقي تعليمها في جامعة أنغلوساكسونية.

دعت الأستاذة وزوجها ضيفين (أميركيا وزوجته الأوروبية) للعشاء في ناد ليلي على ضفاف النيل. نبهت موظفة الاستقبال الأستاذة التي غطت رأسها بحجاب أن لائحة النادي للملابس الملائمة (DRESS - CODE) لا تسمح بأغطية الرأس.

غضبت الهانم الأكاديمية لإحراجها أمام ضيوفها الأجانب وركبت رأسها بعناد ابنة الزير سالم، فإما الدخول للمطعم أو تسجيل محضر بتهمة «التمييز الديني» لدى البوليس.

تتقزم التفاصيل أمام انزعاجي من جدل صفوة المثقفين المصريين (المناقشات تدور بالإنجليزية) الذي خلط بين لائحة إدارية لناد وبين السياسة، والآيديولوجيا والدين.

النسويات FEMINISTS أقحمن آيديولوجيتهن بتهمة أن الرجال يلبسون ما يحلو لهم على الشواطئ مثلا ويصرون على «احتشام» النساء.

الإخوان والسلفيون صرخوا «وا إسلاماه» متهمين ثوار 30 يونيو (حزيران) بحملة ضد التدين.

محبو الظهور والمجادلون لغرض خالف تعرف (تجدهم على الـ«فيسبوك» بكثافة الذباب على نافذة مخزن حلاوة طحينية) صالوا وجالوا حول التفرقة والاضطهاد وحق أي شخص في ارتداء ما يعجبه.

الأقلية نبهت إلى حقيقة عالمية بأن المطاعم والنوادي في كل بلاد الدنيا تحدد DRESS - CODE (أكثرية حانات بريطانيا تمنع أغطية الرأس خاصة الـHOOD الواقي من المطر لإخفائه ملامح الشخص، وترفض دخول زبائن يرتدون الشورت والفانلة خاصة في الصيف) وقبل سنوات طلب حارس في محلات هارودز من سيدة أميركية المغادرة لارتدائها سترة قصيرة فوق مايوه بجوارب LEOTARD فتظاهرت بلافتة أمام المحل تتهم «الفايد» بطردها لأنها «بدينة» فتحولت لهدف سخرية صحافة لندن.

علق محام مصري بأن من حق صاحب أي محل سواء يبيع الفلافل أم المجوهرات رفض تقديم الخدمات إلى زبون لا يعجبه شكله؛ لأن دخول المحل (المملوك لصاحبه) اختياري وليس اضطراريا كركوب المواصلات العامة مثلا.

الملاحظ أن مثقفين مصريين، ومنهم أوروبيو الإقامة ويعملون في مؤسسات عالمية واختبروا لوائح الملابس الملائمة، جادلوا آيديولوجيا حول التمييز الديني وحقوق الفرد في ارتداء ما يحلو له.

مطاعم وأندية بريطانيا (سواء الخاصة بالأعضاء أو المفتوحة) هي الأكثر تدقيقا بين بلدان العالم الديمقراطي في سياسة الثياب الملائمة، كثيرها لا يسمح بارتداء الرجال للجينز أو الحضور بلا ربطة عنق.

بطاقات الدعوة للعشاء أو حفلات الكوكتيل الدبلوماسية من الوزارات والسفارات يكتب فيها BLACK - TIE ( بذلة سموكنغ - توكسيدو وببيون أسود - أبيض أو الزي القومي للسفراء) أو lounge suit بذلة بربطة عنق، والسيدات بفستان طويل في الثانية أو فستان السهرة في الأولى، والمدعوون يلتزمون بالملابس الملائمة بلا اعتراض.

في أكتوبر (تشرين الأول) مررت بمدينة تالين فدعتني صديقتي الأستاذة الجامعية هناك لأوبرا تقدمها فرقة إستونيا القومية. وكنت في زيارة عمل ببذلة واحدة فاستأجرت بذلة سموكنغ، واشتريت ببيونا أبيض (ملابسي للأوبرا منذ زيارتي الأولى بصحبة معلمي قبل 49 عاما). ثلث الرجال الحضور في دار أوبرا تالين ليلتها تسربلوا ببذل عادية (إستونيا جمهورية سوفياتية سابقة يساريو مثقفيها يرفضون «تقاليد البرجوازية والأرستقراطية» لأوبرا الإنجليز).. الصديقة جاءت بفستان سهرة أسود وtiara (تاج رأس قوسي فضي للمناسبات)؛ لأنها أستاذة أدب إنجليزي وتعرف أن جنتلمان من المدرسة التقليدية البريطانية سيأتي بملابس ملائمة للأوبرا وفق التقاليد الإنجليزية، فاتبعت، كصاحبة دعوة، تقاليد بلد الضيف للمجاملة، وربما للتضامن جماليا ضد نظرات محتملة من المثقفين اليساريين - وحسب قول جدي: لكل مقام مقال، اتبع كلانا التقاليد الملائمة للمكان والمناسبة.

من دراستي لحكاية الأستاذة في النادي الليلي القاهري اكتشفت ملاحظات لا تدعو للتفاؤل بالمستقبل القريب لمصر وصفوة مثقفيها يتعاملون بمنطق اللامنطق.

الصحيفة التي نشرت قصة الأستاذة لم يبحث محرروها - عبر الاتصال بالنادي - مصداقية روايتها ودقتها (يوجد في النادي كاميرا تسجل فيديو الموجودين في بهو الاستقبال)، ولم يستجوبوا موظفة الاستقبال والمدير، أو يتأكدوا من لائحة النادي للملابس الملائمة DRESS - CODE ومدى إدراك الزبائن لها.

الأكاديمية وزوجها متميزان اجتماعيا وقادران ماديا على دعوة ضيفين لعشاء خارج متناول القدرة الشرائية لأغلبية المصريين (كررت الأستاذة التأكيد على تفوقها الأكاديمي وتجوالها في أوروبا) وتوقعت امتيازات واستثناءات من لوائح يخضع لها بقية المصريين.

ومع احترامي لمكانتهما؛ فمنطق الأستاذة وزوجها معوج ويجهلان القانون.

اتضح من تحرياتي مع النادي أن لائحة الملابس الملائمة لا تذكر أي دين، وتمنع تغطية الرأس للرجال والنساء بالتساوي، وبالتالي فتهمة التمييز دينيا أو بين الجنسين غير منطقية.

محاضر البوليس تتعلق بالقانون الجنائي (لو كانت موظفة الاستقبال اعتدت باللفظ مثلا لكانت جنحة)، والخلاف حول تفسير لائحة الملابس الملائمة هو نزاع مدني، والبوليس في أي مكان في العالم لا يملك الآليات القانونية أو الحق لحله، ولا يفصل فيه إلا القضاء لو اختارت الأستاذة خوض هذه السبيل.

ما حل بمصر على يد مثقفيها في العقود الأخيرة نتيجة لقبول البعض الطبقة الوسطى ومثقفيها للقبح بديلا للجمال، ابتداء من الأزياء وفن التزيين وقبح المباني والصيانة وتخطيط المدن، وبالتالي السلوكيات والمجتمع وطريقة التفكير. وما ظهور العشوائيات، كأحياء ومنطق تفكير وأسلوب حياة، إلا نتيجة طبعية لوأد الجمال وولادة القبح، توائم يتضاعف عددها.

في 6 عقود انتقلت مصر من عهود يعاقب فيها المعلم والأب الولد إذا اعوجت ربطة عنقه أو علا حذاءَه الترابُ، ويحرص الساعي على أن يكون طربوشه وبذلته في نظافة ملابس المدير، والسائق بذلته في هندام مخدومه الباشا (راقب تسجيلا للحفل الشهري لأم كلثوم في الخمسينات وأزياء الحضور مقارنة بعشوائية الأزياء وغوغائية وغثاء «النجوم» في احتفالات اليوم)، إلى اهتمام المعلم بالدروس الخصوصية أكثر من سلوكيات وهندام التلاميذ، واعتياد المارة الخوض في القمامة ومشاركتهم في زيادة أكوامها في الشوارع. ومن اشتراط مفتش بلدية الإسكندرية عام 1949 أن تصلح أعمدة مكسورة عمرها مائة عام في السور الحديدي لحديقتنا بأعمدة مطابقة مستوردة، إلى أيام إضافة مقاول معوج الضمير (ومفتش «مهاود») 8 أدوار عشوائية لمبنى بترخيص 3 أدوار، ومصرع السكان تحت الأنقاض مسألة وقت.

إنها عشوائية القبح التي جعلت من محاولة إضافة لمسة جمال باهتة من «العهد البائد» إلى القبح المعاصر بملاءمة المظهر لمناسبة بهيجة، مصدر احتجاج أستاذة جامعية يفترض أن تمنهج التفكير المنطقي لطلابها.