حشمتلو!

TT

يروي الصحافي المصري الشهير الراحل مصطفى أمين حكاية طريفة أيام الحكم العثماني لبلاد الشام في بداية القرن العشرين. فوقتها كانت السلطات تخاف من الجرائد وتمارس عليها رقابة شديدة إلى درجة مضحكة.

ففي أحد الأيام جاءت برقية بأن المسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا قد اغتيل في مدينة ليون بضربة من خنجر على يد شاب اسمه كازاريو.

ورفض الرقيب العثماني أن ينشر أن رئيس الجمهورية اغتيل، وأصرَّ على أن نشر مثل هذا الخبر يؤدي إلى إفهام الناس أنه من الممكن اغتيال السلطان!

وطلب الرقيب من الجرائد الاكتفاء بالقول إن فخامة رئيس جمهورية فرنسا انحرفت صحته! واعترض المحررون كيف يقولون، إن صحة الرئيس منحرفة، بينما الرئيس موجود الآن في السماء!

وأخيرا، قبل الرقيب بأن تنشر الصحف النبأ التالي «إلى جنان الخلد.. ساءت صحة فخامة رئيس جمهورية فرنسا بسبب تقدمه في السن فانتقلت روحه إلى بارئها».

وبدأت الصحف تستعد لنشر الخبر كما صرح به الرقيب. وفجأة، اتصل البوليس بجميع الصحف وطلب منها أن توقف الطبع! فقد عرض الرقيب الأمر على الوالي التركي. واعترض الوالي على صيغة الخبر! كيف يقال إن رئيس الجمهورية المسيحي ذهب إلى جنان الخلد، والمفروض أن الجنة لا يدخلها إلا المسلمون؟! ثم كيف يقال إن رئيس الجمهورية مات بسبب تقدمه في السن؟! إن جلالة السلطان عبد الحميد متقدم في السن، فمعنى ذلك أنه إيحاء للرأي العام بأن السلطان ممكن أن يموت، وفي ذلك إثارة للخواطر وإقلاق للأمن العام!

بعدها، أعاد الرقيب كتابة الخبر من جديد، وصدرت صحف بيروت وقد نشرت الخبر التالي: «انتقل فخامة رئيس جمهورية فرنسا إلى رحمة الله».

وفهم الصحافيون حينها أن نشر الخبر بهذه الصيغة قد أرضى ولاة الأمر. ولكن ما كادت الصحف اللبنانية تصل إلى الباب العالي في إسطنبول حتى قامت الدنيا وقعدت! فقد رأى السلطان عبد الحميد في نشر الخبر بهذه الصورة إهانة للذات العلية العثمانية الشاهانية!

فكيف يلقب رئيس جمهورية بصاحب فخامة؟! إن الفخامة وحدها من حق السلطان! وصدر في الحال أمر «الكتوبحي»، أي الرقيب، إلى جميع صحف بيروت بالتعليمات التالية:

أولا: لا يعطى صاحب الفخامة أو صاحب الجلالة أو صاحب العظمة إلا السلطان وحده دون سواه.

ثانيا: يلقب الملوك والأباطرة والسلاطين في باقي أنحاء العالم بلقب «حشمتلو».

ومن أيام العثمانيين وحتى اليوم تغيرت أمور كثيرة، وبقيت أشكال الرقابة؛ من رقابة ذاتية، ورقابة مجتمع، ورقابة المقدسات، والرقابة الحربية، وغيرها.

بعض الأمور لا تتغير حتى ولو تغيرت الدنيا!