أميركا وزعامة العالم الأخلاقية

TT

الآن وبعد صدور تقرير مجلس الشيوخ الأميركي بشأن ممارسات التعذيب التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية، يبقى السؤال: هل سيؤدي الكشف عنه لأي شيء يملأ الفراغ العالمي من السلطة الأخلاقية، التي أنشأتها الولايات المتحدة أثناء رد فعلها العنيف على هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)؟ هل ستعود الولايات المتحدة مرة واحدة الزعيم الأخلاقي للعالم؟ يشير التفاعل العالمي حتى الآن إلى أنه ما زال هناك الكثير من العمل الذي ينبغي القيام به قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من ممارسة هذا الدور.

ويهدف هذا التقرير بشكل واضح إلى المساهمة في إعادة إرساء مكانة الولايات المتحدة باعتبارها الوصي على القيم الإنسانية الغربية. قالت عضو مجلس الشيوخ ديان فينشتاين أثناء عرضها للتقرير بأن التاريخ سيحكم عليها هي والكتاب الآخرين على أساس «الالتزام بمجتمع عادل يحكمه القانون والاستعداد لمواجهة حقيقة بشعة وأن نقول: (لن تحدث مرة أخرى أبدا)».

ولكن الأمر غير المؤكد هو هل الولايات المتحدة وحلفاؤها على دراية بأساس هذه القيادة الأخلاقية؟ عضو مجلس الشيوخ جون ماكين أمضى الكثير من الوقت في الحديث عن عدم كفاءة التعذيب في الحصول على معلومات استخباراتية ذات قيمة قبل أن يقول إن الأهم هو الحفاظ على القيم الغربية. النقاش بأكمله حول الكفاءة، الذي يتخلل التقرير، يأتي بنتائج عكسية إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في التعبير عن إغلاق باب المناقشة في هذا الموضوع والتوبة عنه. ينبغي أن تكون الرسالة هي «ما فعلناه كان خطأ»، وليس «ما فعلناه فشل في تحقيق نتائج». يوحي النقاش بالقيمة المشكوك فيها للمعلومات التي تم الحصول عليها تحت وطأة التعذيب، بأنه إذا تم التوصل لأساليب أكثر كفاءة لكسر مقاومة المتهمين، ينبغي على الولايات المتحدة ألا تتورع عن استخدامها.

ألمانيا، التي عملت على طرد أباليس ماضيها النازي والشيوعي، لم ترتكب هذا الخطأ: لقد كانت جهودها في تطهير نفسها دائما بشأن القيم بدلا من المنفعة. فلم تدافع أبدا عن مرتكبي جرائم الحرب، ونغصت حياة الجلادين والمخبرين التابعين لجهاز الشرطة السرية ستاسي في ألمانيا الشرقية؛ لذلك، فمن السهل على الألمان أن يقولوا إن نشر تقرير تعرض لتنقيحات كبيرة ليس كافيا.

ولكن ألمانيا في هذا القرن لها سجلها الخاص من حيث التساهل النسبي تجاه التعذيب، سواء على المستوى المحلي والأجنبي؛ فهي واحدة من 21 دولة أوروبية تعاونت مع ما يطلق عليه برنامج التسليم الاستثنائي التابع لوكالة الاستخبارات المركزية. ولعل هذا يفسر سبب بطء إصدار رد الفعل الرسمي على التقرير الأميركي ولماذا كانت التعليقات الإيجابية من شخصيات في دول أخرى مصحوبة بانتقادات لاذعة لحكوماتهم.

في المملكة المتحدة، قالت صحيفة «الغارديان» في افتتاحيتها إنه «من ناحية، هو ثناء على الولايات المتحدة التي نشرت مثل هذا التقرير، ولكن من المؤكد أنه على تناقض هائل مع القصور الكبير في السياسة والممارسة والمساءلة البريطانية».

وفي كينيا، التي كانت كذلك جزءا من برنامج السجون السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، كتب جاكتون أمبوتا في صحيفة «ستاندارد» أنه من خلال نشر التقرير، فإن الولايات المتحدة «كشفت عن تواضعها»، وأن «لديها الجرأة على الاعتراف والتعلم من أخطائها» - على عكس كينيا نفسها، التي حققت في انتهاكات وقعت في الماضي، مثل وحشية الشرطة والتطهير العرقي، ولكنها لم تنشر تقاريرها للعامة، ولم تكن لتفعل ذلك أيضا بشأن تعاونها مع وكالة الاستخبارات المركزية.

إننا نعيش في عالم لا توجد فيه دولة لا ترتكب أخطاء، وبالتالي تكون قادرة على قيادة أخلاقية ذات مصداقية، ولكن هذا لا يمنع وجود محاولات زائفة لادعاء ذلك؛ فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخوض في إحداها حاليا؛ فآلة الدعاية الروسية، التي زعمت لفترات طويلة أن الولايات المتحدة لا يحق لها أن تتحدث إلى العالم حول حقوق الإنسان بسبب انتهاكاتها، ستنتهز بلا شك مسألة إفلات الجناة من العقاب لدفع وجهة نظرها إلى موطنها مرة أخرى. فكتب قسطنطين دولغوف المسؤول في وزارة الخارجية الروسية على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «رغم أن الولايات المتحدة قامت بحظر التعذيب رسميا، فإن إدارة أوباما لم تحرك ساكنا تجاه معاقبة المذنبين المتهمين بارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان».

سيستغرق إعادة بناء المصداقية الأخلاقية أكثر كثيرا من تقرير فينشتاين. ولم يتم الكشف عن الحقائق الكاملة للتعذيب وبرنامج التسليم الاستثنائي، ولم تتم محاكمة المشاركين فيه، ولم يتم حتى الآن حظر وقوع انتهاكات في المستقبل.. حتى يتم اتخاذ مثل هذه الخطوات في جميع أنحاء التحالف الغربي، لا تعتبر عمليات الكشف سوى تمرين في العلاقات العامة.

بالاتفاق مع «بلومبيرغ»