الميزانية السعودية وكلام من القلب والعقل!

TT

أعلنت السعودية منذ أيام قليلة عن موازنتها المالية للعام القادم، وقد جاءت الأرقام بشكل قياسي وغير مسبوق لتكون الموازنة الأكبر في تاريخ البلاد. وجاء تصريح وزير المالية إبراهيم العساف بعد الإعلان عن أرقام الميزانية أن السعودية ماضية بإصرار على الإنفاق التنموي لتأمين الاحتياجات الأساسية وتكملة المشاريع العملاقة المخطط لها والتي كانت قد أقرت سلفا.

ومنذ سنوات طويلة أقرت وزارة المالية أن سياسة التوسع في الإنفاق هو الخط الأساسي للسياسة المالية للبلاد، وهذه المرة تأتي الميزانية السعودية (وهي الحدث المالي والاقتصادي الأهم في المملكة) وسط ظروف جيوسياسية خطيرة فالاضطرابات السياسية والأمنية مؤججة في أكثر من بلد قريب ويتبع ذلك توابع اقتصادية لا يمكن إخفاؤها مع عدم إغفال الهبوط الحاد لأسعار برميل النفط وهي السلعة الأساسية التي يعتمد على مداخيلها الاقتصاد السعودي العام والذي هو بطبيعة الحال العمود الفقري للاقتصاد السعودي ككل.

قد يكون من المفيد الدخول في حديث من القلب قد يبدو أشبه بالسباحة عكس التيار، بحسب اعتقادي أنه مطلوب. السعودية «الآن» مؤهلة ذهنيا للدخول في سياسة الترشيد والإنفاق، فهناك قلق «صحي» من الظروف المتغيرة تجعل فكرة الترشيد في النفقات وإحداث فكر الأولويات المالية واقعا مطبقا مقبولا جدا. وليس بخاف على أحد أن توجه الدولة في السعودية تنموي في المقام الأول وتوفير كل ما يمكن لمواطنيها من تعليم وصحة ومواصلات وغير ذلك، وبالتالي فإن البحث في هذا الأمر يجب ألا يكون موضع نقاش ولا شك ولا جدال، ولكن الظروف الحالية تقتضي التفكير بشكل مختلف.. التفكير بأسلوب التوفير والترشيد وأولويات الإنفاق، لأن اتجاه الدولة سيكون له الأثر الاجتماعي الحميد على سائر المواطنين لأن الترشيد والحرص وتخطيط الاستهلاك هي جميعها قيم وصفات ومزايا مهمة تجعل المجتمع أكثر سوية واعتدالا في السلوك الاقتصادي وبعيدا رويدا رويدا عن المسلك الاستهلاكي غير الملتزم والذي يؤدي إلى تراكم الدين وتبعات ذلك.

ما كان مقبولا لحقبة سابقة من الزمن يبدو أن علينا قبول تغيير فيه مع تفهم وطني ومسؤول من العامة، ولكن من الضروري أن يكون هناك ردة فعل وتفاعل مطلوب مع تغيرات عالمية وإقليمية مهمة ومثيرة للجدل، وهناك بعض المشاريع من الممكن تأجيلها لصالح التركيز على مشاريع أخرى. وبنفس الفكر سيكون من المفيد جدا أن يحصل انتقال جاد وحقيقي في فكر المناقصات لاعتماد ثقافة التكلفة بدلا من ثقافة الثمن. المناقصات الحكومية تعتمد على فلسفة الأرخص سعرا والتي مع مرور الوقت قد «تكلف» أكثر في بنود الصيانة والإصلاح؛ لأن الأرخص ليس بالضروري الأقل تكلفة أبدا، ولم يعد خافيا أن هناك ملاحظات لافتة ومؤثرة على بعض المناقصات بسبب «رخص» الثمن وليس بالضرورة كفاءة وجودة الخدمة والمنتج بالتالي.

جاءت هذه الميزانية ويصاحبها قبلها تغييرات وزارية دفعت بوجوه واعدة في مناصب قيادية حساسة، وكل الأمل أن يطال هذا التغيير قطاعات أخرى لا تقل حيوية وأهمية مثل الكهرباء والمياه والاقتصاد والتخطيط لأجل إحداث النقلة النوعية في الرؤية الجديدة التي تجبر بوصلة الاقتصاد على التنوع الحقيقي والجاد والملموس في مصادر الدخل وتطوير الكهرباء والمياه مع وضع سياسات فعالة جدا للترشيد، فمعدلات الاستهلاك الحالية هي أقل ما يمكن وصفها بأنها غير قابلة للاستدامة.

النقلة النوعية في الفكر المالي السعودي من حالة الإنفاق التنموي والمفتوح إلى فكر الإنفاق بالأولويات والتركيز على الترشيد بشكل رئيسي.. أعلم أن هذا الطرح ليس بالضرورة «شعبويا» ولكنه أقرب للعقل بعيدا عن العاطفة.

الكل يريد الصالح العام والجميع في مركب واحد، ولكن في بعض الأحيان هناك كلام مطلوب أن يقال حتى ولو لم يكن تحت رغبة الجمهور العريض.