نوافذ أوروبا الشرقية المكسورة

TT

ََفي اليوم التالي لأعياد الميلاد، اقتحمت قوات الشرطة المسلحة في العاصمة الأذربيجانية مكتب إذاعة «أوروبا الحرة» أو «إذاعة الحرية» الممولة من الكونغرس الأميركي وعبثت بمحتوياته. وبعد اعتقال مراسلي ومحرري المكتب لعدة ساعات، تم الإفراج عنهم، رغم استدعاء 10 منهم على الأقل إلى مكتب ممثل الادعاء العام للاستجواب منذ ذلك الحين. وكذلك تتوجه الشرطة إلى منازل من عملوا في السابق لدى المكتب، وتقتاد الناس ليلا للتحقيق. وتقول السلطات في أذربيجان إن تلك الإجراءات تأتي في إطار التحقيقات المستمرة المتعلقة بقوانين الدولة الخاصة بالتمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية. وتكثف حكومة الرجل القوي إلهام علييف حملتها ضد منظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المستقلة، خاصة إذاعة «أوروبا الحرة»، حيث تقبع الصحافية الاستقصائية خديجة إسماعيلوفا في السجن منذ 5 ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ويعلم علييف أن محطة «أوروبا الحرة» من المنابر الإخبارية المستقلة التي لا تزال موجودة في أذربيجان، ويبدو أن صبره قد نفد. هل سترد الولايات المتحدة؟ إذا لم نفعل، فسيكون نبأ سيئا بالنسبة لأذربيجان، ومثار قلق في المنطقة. لقد قابلت علييف عام 2009 عندما كنت رئيسا لإذاعة «أوروبا الحرة»، وسافرت إلى العاصمة باكو لحثّ حكومته على التوقف عن التحرش بصحافيينا. كانت محادثتي مع علييف، الذي يحكم أذربيجان منذ عام 2003 مثل زعيم مافيا، كما وُصف في إحدى البرقيات الدبلوماسية المنشورة على موقع «ويكيليكس»، متوقعة وعجيبة في الوقت ذاته، فقد أخبرني الرئيس الأذربيجاني أنه لا يستطيع أن يفهم لماذا يسمع تقارير تنتقد حكومته على محطتنا الإذاعية رغم كونه شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة الأميركية يجلس على آبار النفط، وله حدود مع روسيا وإيران. والسبب في هذا هو أن قادة مثل علييف يعتقدون أن وظيفة الإعلام ليست مساءلة السلطة، بل مساعدة الحكومة في مساءلة الشعب. وكان معي السفير الأميركي، الذي انضم لي في محاولة شرح أسباب سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق توازن بين التجارة والأمن وحقوق الإنسان. ولم يكن علييف مقتنعا حينها، أما الآن فهو يزدري حرية التعبير. وتشير وزارة الخارجية إلى «قلق» الولايات المتحدة من التطورات التي تحدث في أذربيجان. وينبغي أن تكون كذلك. بحسب المتحدث باسم الوزارة جيف رازكي، تحدث وزير الخارجية الأميركي جون كيري هاتفيا مع علييف في 21 ديسمبر، وعبّر له عن قلقه من تنكيل أذربيجان بالمجتمع المدني. وكان اقتحام مكاتب إذاعة أوروبا الحرة في باكو، وإغلاقها في 26 ديسمبر (كانون الأول)، يوضح مدى جدية علييف في التعامل مع القلق الأميركي. وتتجاوز مشكلتنا المتمثلة في استجابتنا الضعيفة حدود أذربيجان، فسواء في الداخل أو الخارج، يعتمد المستبدون بوجه عام على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الديمقراطيين في غض الطرف عما يُطلق عليها صغائر الأمور، أو التهوين من شأنها، مما يسمح لهم بالتمهيد لمزيد من المغامرات الطموحة.

لقد أخفقنا في الاشتباك بشأن عملية الاختطاف الروسية لضابط استخبارات، التي تمت على أراضي إستونيا في سبتمبر (أيلول)، بعد يومين من خطاب الرئيس باراك أوباما في العاصمة تالين. كذلك لم يبدُ علينا أي اندهاش عند ظهور الغواصة الروسية بالقرب من استوكهولم خلال الخريف الماضي. ولم تزعجنا الطريقة التي أرهبت بها روسيا دولة مولدوفا الصغيرة بوضعها قيودا على الواردات، وتهديدها بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عنها من أجل إثنائها عن التوجه نحو الغرب.

وتتراكم مثل تلك الأمور. وسخر نائب رئيس الوزراء الروسي ديمتري روغوزين من أوباما في تغريدة له على موقع «تويتر»، خلال شهر أغسطس (آب)، من خلال نشر صورة تدمج بين صورة للرئيس الروسي وهو يمسك بنمر، وصورة للرئيس الأميركي وهو يمسك بجرو. وكتب في التغريدة: «قيمنا وحلفاؤنا مختلفة». مع ذلك لا يمكن أن ينشأ صراع بسبب تغريدة على موقع «تويتر» أو أمر استفزازي هنا أو هناك. ويبدو أن هذا يشمل إغلاق مكتب صغير يعمل به صحافيون في باكو.

وفي مقال نُشر عام 1982 في مجلة «أتلانتيك مانثلي»، عرض كل من جيمس ويلسون وجورج كيلينغ نظرية «النوافذ المكسورة» المتعلقة بنهج الشرطة، وأوضحا بها أن على سلطات تطبيق القانون والمجتمعات الانتباه إلى الأمور الصغيرة التي تحدث في حي من الأحياء، مثل تراكم القمامة، والنوافذ المكسورة، والقفز من أعلى بوابات العبور إلى قطار الأنفاق، من أجل منع انتشار الجريمة، ومنع وقوع جرائم أكثر خطورة.

وينطبق هذا أحيانا على السياسة الخارجية، لا في أوكرانيا وحدها؛ فقد بدأ حي أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق يقترب في الشبه من حي نيويورك الذي كان يعجّ بالجريمة في حقبة السبعينات، وذلك للأسف بسبب تجاهل إدارة الرئيس أوباما وحلفائنا الأوروبيين صغائر الأمور. منذ فترة ليست بالطويلة كانت لدينا رؤية لأوروبا ككيان «كامل وحر». وإذا أردنا استرجاع تلك الرؤية، فلا ينبغي انتظار استراتيجية عظيمة، بل يمكن البدء بالأمور الصغيرة. يجب أن تصرّ الولايات المتحدة الأميركية على أن تسمح حكومة أذربيجان بفتح مكتب إذاعة «أوروبا الحرة» في باكو مرة أخرى، وتتوقف عن التحرش بالصحافيين وإرهابهم في جميع أنحاء البلاد.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»