الرقابة «كنز لا يفنى»

TT

اختياري للعنوان محصلة لتطور سلسلة التفكير في ترتيب عناصر صياغة هذا العمود.

البداية قرارات منع عرض فيلم «Exodus» (سفر الخروج) للمخرج ريدلي سكوت عن القصة التوراتية بخروج اليهود من مصر وشق النبي موسى البحر بعصاته. سأكتفي بحالة مصر (من بلدان منعته) التي تابعت تفاصيلها، خاصة مفارقة أن جزءا كبيرا من الفيلم تم تصويره في مصر.

تذكرت ترحيب الضباط الأحرار بتصوير المخرج سيسيل دي ميل لفيلم «الوصايا العشر» (أيضا عن موسى وفرعون)، وتقديم جنود مصر ككومبارس مجاني في التصوير عقب عام 1952، ثم الضجة التي أدت إلى منع الفيلم من العرض في مصر في الخمسينات بسبب «الإساءة للمصريين».

فيلم «الخروج» عام 2014 رديء بالمقاييس الفنية (حتى بالمقاييس الفنية المنخفضة لهوليوود)، فالتكنولوجيا والتصوير للمناظر باهر ومؤثر، كشق أمواج البحر، وإمطار السماء تماسيح وحيوانات مفترسة لتعاقب المصريين على اضطهاد «شعب الله المختار».

الشخصية وتطورها في التعامل والعلاقات مع بقية الشخصيات والأحداث وإجادة التمثيل والحبكة ستظل منذ أيام تعريف أرسطو للدراما هي معايير الجودة، وبهذه المسطرة لا يستحق الفيلم أكثر من 3 من 10 (تكنولوجيا العناصر المؤثرة والإضاءة وفن التصوير بالكاميرا)، أما العناصر الباقية فصفر. وحتى العناصر الباهرة جدا بصريا في الفيلم «تزهق» منها بعد ثلث ساعة (أصابتني بصداع من ارتفاع المؤثرات الصوتية) فقد أكثر المخرج منها تعويضا عن الضعف في دراما تطور الشخصية والأداء التمثيلي (بمستوى أقل من مسرحيات تلاميذ المدارس الابتدائية).

لكن ضعف الأداء الدرامي لم ولن يكون سببا في منع نجاح فيلم في شباك التذاكر أو سببا في منعه رقابيا.

للأسف قرار وزارة الثقافة المصرية بمنع عرض الفيلم جعل مما هو سيئ فنيا مرغوبا مبدئيا وإنسانيا.

سأسوق بعض، لا كل، أسباب اعتراضي على قرار وزارة الثقافة المصرية الذي اتخذ بعقلية تتجاهل خطرا حقيقيا أو وهميا أو كمن يحاول سد قرص الشمس بإصبعه.. ويتجاهل دروس التاريخ.

منعت مصر دخول مجلة «الإيكونوميست» عام 2005 لمقالة لم تعجب النظام حينذاك، فنشر عشرات الآلاف من المصريين المقال «المسيء» على الإنترنت، وطلبوا من الأصدقاء في الخارج نسخا منه بالإيميل والفاكس والبريد العادي، واستخدمت «الإيكونوميست» الواقعة في الترويج الدعائي، وحسبت القراء في مصر بأكثر من 40 ألفا بدلا من ألف نسخة اعتادوا توزيعها على الدبلوماسيين والأكاديميين والساسة في مصر.

وعندما قررت شركة سوني تجميد عرض فيلم «المقابلة» بعد غزو إلكتروني لمواقعها غضبا من «إهانة» زعيم كوريا الشمالية لسخرية الفيلم منه، فإن عرضه على مواقع إلكترونية أدى إلى مشاهدة أضعاف مرتادي السينما له عبر الإنترنت والأجهزة الإلكترونية المحمولة.

ومنع عرض الفيلم في بضع مئات من دور السينما في مصر لن يمنع ملايين المصريين من مشاهدته عبر الإنترنت و«نتفليكس» و«يوتيوب»، فمن يمتلك جهاز آيباد أو تليفونا ذكيا سيتمكن من مشاهدة الفيلم. الواقع العملي وتصرف وزارة الثقافة سيفقدانها ليس فقط المصداقية لدى المواطنين، بل الـauthority؛ أي سلطان الحكم المشروع لجهة حكومية مسؤولة عن سياسة الثقافة والفنون.

وزارة الثقافة أكدت في بيانها الرسمي أن قرار منع الفيلم اتخذته لجنتان؛ الأولى من إدارة الرقابة المركزية والثانية من تشكيل وزير الثقافة، وتضم مثقفين واثنين من أساتذة الآثار المصرية، وأن المنع ليس لأسباب دينية وإنما لإساءته للمصريين ولاحتوائه على مغالطات تاريخية وإحداث مناقضة للواقع (وهل هناك حقائق علمية وسجلات وتواريخ مسجلة توثق وقائع رواية خروج اليهود من مصر؟).

ولو انتبهنا لهراء هوليوود ومغالطاتها لأحداث التاريخ القريب الموثقة، لرفضت بريطانيا عرض معظم الأفلام الأميركية، فهوليوود لم تكتف بجعل الشرير أو المحتال دائما في أفلامها إنجليزيا يتحدث بلهجة الطبقة المتوسطة البريطانية، بل سرقت التاريخ وزيفت الأحداث في أفلام الحرب والاختراعات، لتقدم الأميركيين على أنهم العباقرة والمنقذون، فيما تقدم البريطانيين بلا دور؛ لكن الإنجليز قوم «عقلهم كبير» لا يبالغون في ردود الفعل ويضحكون على تفاهات الأميركيين وعقدة النقص عندهم من السيد الإنجليزي.

قرار وزارة الثقافة المصرية يعكس ذهنية الوصاية على الناس لتسمح لهم بمشاهدة ما هو مناسب، وكأنهم دون سن الرشد، فتحميهم مما هو «غير مناسب».

الذهنية نفسها تدفع مثقفين للقول «شعبنا غير مؤهل بعد للديمقراطية».. فهل الشعب الذي يحتاج إلى لجنتين حكوميتين لتقررا ما هو مناسب له من ثقافة وفن وسينما يكون اختياره للحكومة صحيحا أم باطلا؟ (بما أنه لم يصل بعد لسن الرشد) ومن ثم تضع وزارة الثقافة علامة استفهام على أهلية الحكومة نفسها للحكم!

اكتشفت الذهنية قبل 20 عاما باحتكاكي المهني الأول بالصحافة العربية عندما كلفت بإعداد برنامج يومي عن الصحافة العالمية في شبكة تلفزيون عربية عالمية. كان البرنامج هو الأنجح والأكثر مشاهدة، وكصحافي في شارع الصحافة البريطاني (لثلاثة عقود آنذاك) لم تكن لي خبرة بالرقابة التي يتعامل الصحافيون العرب معها يوميا. اكتشفت «ضرورة» الموافقة على السيناريو المكتوب قبل التصوير من قبل قسم لا أذكر اسمه بالضبط، لكنها رقابة. كان وقتي لإعداد البرنامج محدودا (ما بين السادسة والعاشرة صباحا، ثم أسرع لاجتماع التحرير في صحيفة بريطانية كبرى كنت محرر شؤونها الخارجية) وكان الوقت يضيع يوميا بإصرار المراقبين على التدخل وتعديل السيناريو. (المفارقة أن الصحافيين في قسم الرقابة كانوا ينشرون تعليقاتهم في الصحف باقتراحات الإصلاح الديمقراطي)..

كتبت لرئيسهم عشرات المذكرات بتحديد criteria أو لائحة بما هو مسموح أو مرفوض، توفيرا للوقت، ولم أتلق ردا أبدا، حتى أفقت على نصيحة صحافي عراقي مخضرم: «إذا حددوا لائحة واتبعتها فلا حاجة إذن لوجودهم؛ يعني قطع أرزاقهم».

ولسنوات تابعت الرقابة (تحت تسميات شتى) في الصحافة العربية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، ظاهرة الوصاية (وكانت بدأت في القرن الـ19 في المطابع الأميرية في القاهرة بعرض الكتب قبل طبعها على الأزهر أو دار الإفتاء) على أذواق الناس وما يتلقونه، لأسباب دينية أو أخلاقية أو لحماية «الثورة» ومكاسب الشعب من مؤامرات الاستعمار والصهيونية. خلقت مؤسسة الرقابة التي تحولت إلى صناعة ومصدر رزق لممارسيها ولجانها وإداراتها في كل مظاهر الصحافة والفنون والتعبير والثقافة في معظم المجتمعات الناطقة بالعربية.