ما هي حقيقة ما جرى في تلك الفترة، ما هي حقائق الأمور التي يُمكنُ استقراؤها، وهل كان تركي مجرّدَ هاربٍ من الموت؟ أم أنّه كان يُفكّرُ ويُخطّطُ ويعرف ماذا يفعل وكيف وأين يفعل؟
لقد كانت الحالةُ في نجد سيئة بعد سقوط الدولة السعودية الأولى وكان كلُ شيءٍ فيها يدعو إلى اليأس والقنوط.. عاصمةٌ محروقة، عائلةٌ مكبلةٌ ومنفيّة، جيشٌ قاهر سلب حرّية الأهالي وحول بعضهم إلى أرقاء يُباعون ويشترون. كتب ابراهيم باشا لوالده محمد علي ما يلي «إنّ قوّةَ الحضرة السلطانية وسمو طالعها قد جعلت هذه الجماعات في حالة بؤس، ومع أنهم أصبحوا كالحفاة المتسكّعين، قد لا يزال من الضروري العمل على استئصالهم جملة، وبتر أكتافهم لأنّهم عروق فساد»، كما لم تنجُ المنطقة من حالة من الكساد الاقتصادي العام مما حدا ببعض السكان لأكل الخشب كما تقول بعض الروايات ولم تنجُ أيضاً من السلب الثقافي بمصادرة الكتب العلمية والمصاحف، وتشير الوثائق العثمانية الى أنّ ابراهيم باشا أحضر معه من الدرعية ما مجموعه (591) مجلداً علميا. (1) وكانت كل الدلائل تشيرُ إلى ملامح مستقبلٍ قاتمٍ بالنسبة لدعوة التوحيد في جزيرة العرب، ولكن، ولحكمة من الله تعالى تمكن تركي بن عبد الله من الإفلات من هذا كله بعد أن خاض صراعاً مريراً وغيرَ متكافئ في الدفاع عن عاصمة آبائه وأجداده، مع بقية السيوف من تلك الأسرة وأعوانها. «فقد كان روح الدفاع عن الدرعية» كما وصفه فيلبي.
استشهد ولده فهد وأخواه محمد وسعود، وكأنهم يقولون لابراهيم باشا، انْ استطعت أن تمنعنا عن عيشٍ كريم فلن تستطيع حِرْماننا من اختيار موت كريم.
وأفلت تركي وابنه فيصل وأخوه زيد من مصير محتوم ليكونوا أسوأ أحلام ابراهيم باشا الذي لم يدرِ ـ بادئ ذي بدء ـ أنّه قد ترك ذِئْبًا جريحًا، وكان هذا هو خطأه القاتل الذي كلفّه غالياً. كان ابراهيم باشا يبحثُ عن «نيشانٍ» جديد، وفاته أن تركي كان يتحرق الى تحرير وطن واعادةِ مُلْكٍ سليب، فهل كان محمد علي يخدع نفسه؟ انسحب تركي الى قلب باديته التي أحبته وأَحبّها، مُراهِناً على عُمْقِه الاستراتيجي وعلى عدائّية الأرض لذلك المحتل، وهكذا كانت الرحم الذي سيشهدُ مخاض الدولة الجديدة.
يقول الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، «كان تركي رجلاً شهماً، مشهوراً، مِقْداماً، عارفاً بمواقع الحروب، انفلت من يد ابراهيم باشا وغاب عنه، ولم يقع له بعد التفتيش على خبر فتركه وتوجه بابن سعود وعائلته الى مصر وعساكر المصريين تبحثُ عنه من كل جانب». (2) عاش تركي في بيئةٍ جديدةٍ من صُنْعِه واختياره وقد أبى أن يستكين للذل أو يقبلَ بأي راحةٍ في حضن المحتل. يقول محمد علي في رسالةٍ بعث بها الى السلطان العثماني (3) «ان تركي، وهو من البقية الباقية من آل سعود، رجل عنيف، عنيد، وثائر مُتمرّد، ولا يُمكنُ الركون اليه.. واذا كان تركي مخلصاً لنا حقاً ويريد صداقتنا، فما عليه الا أن يحضر الى مصرَ ويقيم فيها مُدّةً من الزمن، ويُشاهدُ عظمةَ الدولةَ العلّية.. وبعد ذلك نستطيع القول انه أصبح صديقاً لنا». ولكن كيف يقبلُ تركي ذلك؟ وفي ذاكرته لا يزالُ مشهد تدمير وحرق دار الآباء والأجداد ماثلاً لا يفارق خياله، كان الموتُ ماثلاً أمامهُ في كل وقت، فلا أمان مع هؤلاء، غير أنّ تركي كان من نوعية الرجال الذين تَصقُلهم الصعاب وتُفجّرُ فيهم طاقات الابداع، فيخرقون المنطق البسيط، ويستشرفون آفاق الأمل بوحيٍ من الشعور الايماني العميق، والاعتماد الصادق على أصالةٍ وعراقةٍ نادرتين في شعبه والتي كان تركي يفهمها فهماً خاصاً. فبدأ يعمل على ترتيب صفوفه ولمّ شعثه، حريصاً في نفس الوقت على أن لا يدع فرصةً للاستقرارِ أو الراحةِ لذلك المحتل، ولا مجالاً للاطمئنان لكل من تعاون معه.
وهذا نص لرسالة له الى العسكر الترك الذين حاصرهم في احدى غاراته على الرياض أورده ابن بشر حيث يقول: «انِّي قادرٌ على اتلافكم، لأن أهل نجد معي عليكم، وانْ أردتم المسالمة نزملكم ونحفظكم الى أَنْ تصلوا للمدينة، فان أَبيتم فلا عندنا لكم الاّ القتل، وأنا رجلٌ ان أتاني العسكر، لجأت الى الجبل، الذي لا تعرفونه ولا تفهمونه أكمُن فيه النهار وأُغيرُ الليل، استسلموا تسلموا».
وكان يبعث برسائل الى شعبه أدت مفعولها ومنها هذا النموذج الذي يقول فيه: «اني موجود معكم، ولن أنسى هذه الأرض ولا هذا الشعب». كان منهم ومنها، وكان الآخر غريباً عنهم وعنها، وكان كل ذلك غائباً عن حسابات الأتراك.
وكأَن التاريخ يعيد في تركي ملحمة صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي تكالبت عليه الدولة العباسية من كل جانب وأرسلت فرق القتل لكل أرجاء بلاد العرب للقبض عليه والحاقه بأبناء عمومته المقتولين في أثناء سقوط امبراطورية آل مروان. ولكن كعادة الأبطال لم يَيْأَسْ ولَم تستطع قسوة الحدث من أن تُثنيه عن مُراده، بل ظلت هامته شامخة وارادته راسخة، ظلَّ مُتخفياً ومشهدُ مقتل أبنـاء عمومتـه لا يـزال حاضراً أمام عينيه.. ولكنه الهدف السامي، هدف يفوق كل تصور، هدف يسمو بالروح ويطهرها من كـل الدنائس وكـأن لسـان حالـه يقول:
فلا تقنع بما دون النجوم اذا غامرت في شرف مروم أجل أجل فمن صبر فلا بد أن يصل، وهاهي دولة بني أمية تتأسس من جديد في بلاد الوندال خلّدها التاريخ، مُحاطة بأجمل المعاني الخالدة واستخلص من سيرتها وسيرةُ مُؤسسها الفذ أسمى العبر.
وفي احدى وقائع الامام تركي المشهورة تلك المغامرة التي أشار لها منير العجلاني في كتابه الامام تركي بطل نجد ومحررها عندما دخل قرية عرقه ليـلا ومنفرداً لا يحمـل سوى بندقيتـه سـحابة وسيفه الأجرب، توجـه الى الجامع، يدخله قبل المصلين القادمين لصلاة الفجر، ويختبئ في أحد أركانه، وبعد أن أدّى المصلون صلاة الفجر، اذ بأمير عرقة وهو المعين من الأتراك، يخطب بالمصلين فيحذّرهم من «ثعلب مجاري السيل» ويعني بذلك تركي، وينبّههُم الى أنه في هذه النواحي ويؤكد عليهم بوجوب الاحتياط منه، ولم يكد الأمير ينتهي من تحذيره حتى قفز تركي الى أمامه من زاوية مظلمة في المسجد شاهراً سيفه قائلاً بصـوتٍ جهوري قاطع «أنا هنا يا خائفاً منّي» ثم هجم على الأمير الذي أذهلته المفاجأة فلم يستطع أن يُحرّكَ ساكناً ليقتله أمام الجميع الغارقين في ذهولهم وقد أفقدهم الرعب القدرة على الحركة ثم اختفى تركي كما ظهر.
وكأن كلمات الامام عبد الله بن سعود في رده على سؤال ابراهيم باشا له عن دخول عبد الله معسكره ابّان حصار الدرعية لا يزال وقعها حيّاً في وجدان تركي. قال ابراهيم في صَلَف وكبرياء «ما رأيك يا عبد الله في قوتنا؟»، فأجابه عبد الله «أنت قويٌ يا ابراهيم، وأبوك محمد علي أقوى منك، والسلطان محمود أقوى منكما ولكن الله أقوى منكم جميعاً». وهاهو تركي الذي منحه الله قوةً في قلبه ولسانه وبارك في عمله، وأينما ذهب كانت أعماله تدل على نيته الخالصة لوجه الله تعالى.
يثبت الامام تركي للأجيال من بعده أهمية أن تكون هيبةُ الحكم مستمدةً من العدلِ، وعندما لا يتعدى القولُ المساحةَ الممكنةَ للفعل، يكتسبُ عندها القائد مصداقيته الوطنية وتقوم الدول وتدوم.
أورد ابن بشر رسالة لتركي الى عُمّاله ما نصها «اسمعوا يا أمراء البلدان، اياكم وظلم الرعايا والأخذ منهم بغير حق، واذا ورد عليكم أمري هذا، وصرتم كراصد النخل، يفرح بشدة الريح ليكثر الساقط عليه، فاعلموا أني لا أبيح لكم أن تأخذوا من الرعايا كثيراً أو قليلاً فمن حدث منه ظلم أو تعدّ على رعيته بغير حقٍ فليس أدَبه عزله بل أُجْليه عن وطنه وأهله».
ربما لا يماثل عبقرية تركي في ادارة الأحداث لتحقيق التحرير الا عبقريته في بناء الدولة الجديدة، على أسسٍ راسخةٍ من العدل وذلك من منطلق علمه أن الممالك القوية الناجحة لا تقوم ولا تدوم الا بسياجٍ من العدل يُصبح جُزءاً من فلسفة القائد. وما أروعها حينما تلتقي عبقرية التحرير وعبقرية البناء ليُشكلا نقطةً وضّاءةً في تاريخ أية أمّة .
ولعل ويندر قد لخص ذلك في كتابه «السعودية في القرن التاسع عشر» بقوله «كان تركي حاكماً صالحاً في زمانه، عادلاً رفيقاً برعيته حريصاً على الصالح العام، ولكنه كان يَمْلكُ من الصفات ما يُؤهله لأن يكونَ حاكماً في أي زمانٍ ومكان». ويذكر ابن بشر «كان اليتامى من كل بلد عنده، يتولى الباسهم وكسوتهم بيده، ولا يُقدّم الطعام لهم الا بحضرته».
انّ تركي لم يكن مجرد زعيمٍ محليٍ بمواصفات الزعامة العشائرية فقط، بل كان صاحبَ رسالةٍ وهدفٍ سامٍ، صاحبَ مقدرةٍ فذةٍ وشخصيةٍ قياديةٍ نادرةٍ في زمانه تمكنت تحت مظلة ايمانه النقـي من تحليل الأحداث وقراءتها قراءة واعية، وعلى توظيف الامكانيات القليلة للوصول للهدف السامي المنشود ألا وهو تحرير أمته واعادة الكرامة لأبناء شعبه ثم اعادة ملك آبائه وأجداده المسلوب.
لم أكن أدري أنّي بعد تلك الرحلة سأجد ذلك الأثر الوجداني بعد أن تهيأت الفرصة لأكتشف ملامحَ تلك التجربة التي عاشها وعاناها الامام تركي بن عبد الله، فهل كان ذلك بسبب التواصل المكاني؟ أم بسبب أواصر الدم التي شكلت مجموعة الأحاسيس؟ أو محاولات التعرض لمؤشر مجهول أثار كل ذلك؟ الحقيقة أنني لا أعرف.
كان الصمتُ بليغاً في طريق العودة ولكنّني شعرتُ أن في نفوسنا جميعاً تجلّيات وقراءات صامتة. في البداية كان المؤثر ربما لأنّ الامام تركي جدنا أنا واخواني الأمراء وربما كان ذهابُنا بوحيٍ من هذا التواصل العاطفيٍ أو بعض الفضول العلمي أو كليهما، لست أدري، وعند العودة شعرت بشيءٍ غريب هو مزيجٌ من الخجل والسعادة. خَجِلتُ لأنّني كنت أَحسَبُ أن تركي هو جد أسرتنا فقط، وسعيداً لأنني قرأت في عيون الجميع أنه كان جدَّهم كُلَّهم، وأنّ لهم في تركي مثلما لنا، ولأنه شخصية تاريخية فذة أكبر من أن نحجمّه كجدٍ لنا وحدنا.
لقد كان حالماً عظيماً ذا همةٍ وصبرٍ عظيمين مكناه من نقل الحلم الى حقيقة، وهذه هي رسالته التي قرأتها في أجواء معقله الأشم، وشعرت أنه تركها لنا لكي نكتشِفها، ولكي نفهمَ أنّه لا يكفي أن نقرأَ التاريخ بل ينبغي أن نعمل على شرف محاولة صنع التاريخ. لقد أراد منا أن نكون رجالاً حقيقيين نحمل مسؤولية هذا الارث العظيم، وليس فقط استهلاك ذلك الارث أو قطف ثماره.
انّ بيئة هذه سماتها هي بلا شك بيئة معطاءة لأنها هي التي أنجبتك وأنجبت بعدك حفيدك صقر الجزيرة عبد العزيز بن سعود مؤسس دولتنا ـ رحمه الله ـ ولعلّ من أبلغ العبر المستوحاة من سيرتك العطرة أنّه لكي نستحقَ شرف الانتساب اليك، يجب أن نتمثَّل شخصيتَك ونعتبرَ من مواقفك في سلوكنا، فهكذا تُخلّد السير العطرة.
لقد كانت رحلة طويلة عبرت الزمان والمكان وسارت بنا في أعماق الانسان. رحلة شعرت بعدها أنني أصبحت أكثر فهماً لجزءٍ هامٍ من شخصية وكيان هذا الوطن. انها رحلة في أعماق الذات «أشد مناطق الدنيا وعورة».
* الهوامش :-
1 ـ خليفة عبد الرحمن المسعود، موقف القوى المناوئة من الدولة السعودية الثانية، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، ص 73 ـ 74 2 ـ نقلاً عن منير العجلاني، الإمام تركي بن عبد الله، ص 245 3 ـ المرجع السابق، ص 38