الجسر البري الأوربي الآسيوي طريق الحرير لتنمية جديدة

TT

ازدادت في السنوات الأخيرة الدعوة الى التأسيس لنظام مالي جديد في مواجهة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يشهده العالم عموما، فمنذ اكثر من عشرين عاما يحتضر الاقتصاد الفعلي الأمريكي وتشهد البنية التحتية الاساسية للاقتصاد الامريكي والصناعات التقليدية والخدمات الصحية والتعليم في الولايات المتحدة انهيارا ملحوظاً. ولعل ما طرأ على صناعة الحديد والصلب في السنوات الأخيرة هو خير مثال على ذلك مما أدى الى أن تعلن شركات كثيرة لصناعة الحديد والصلب ومن بينها شركات عملاقة افلاسها، في حين تمت تصفية شركات اخرى وتسريح العاملين فيها. ومن ابرز الداعين لهذا النظام هو الاقتصادي والسياسي ليندون لاروش Lyndon La Rouche الذي ينوي ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة عام 2004، حيث يرى الحل الاقتصادي في تمويل مشروع ضخم يتلخص في بناء جسر بري يربط بين القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوربا ليكون بمثابة طريق حرير جديد. وتسلطت الأضواء في الفترة الأخيرة على طروحات لاروش في ضوء الفضائح المالية وإفلاس الشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية مما اضطر الاعلام الغربي للتحدث صراحة عن وجود أزمة مالية خانقة وانهيار اقتصادي لا مثيل له في التاريخ الحديث. ورغم ان جذور هذه الأزمة تعود الى بداية السبعينات من القرن الماضي حين فك ارتباط الدولار بالذهب في عهد الرئيس نيكسون وانهار ما كان يعرف بنظام بريتون وودز غير ان تفاقم الأزمة في الفترة الأخيرة وبالتحديد منذ الأزمة المالية في بلدان جنوب شرق آسيا عام 1997، جعل من الصعب الاستمرار في التغاضي عن التدهور الحاصل. لقد حاولت الدول الصناعية الكبرى وبنوكها المركزية التمويه على حقيقة هذا التدهور وتجاهلت عن عمد الحديث عن الأسباب التي تكمن وراءه والمتلخصة بأن معظم تجارة العملات اليومية في العالم لا علاقة لها اطلاقا ببيع وشراء السلع والخدمات لأن الاقتصاد قد تحول من اقتصاد انتاج واستهلاك السلع والخدمات الصناعية والزراعية الى اقتصاد التجارة بالعملات الورقية والأوراق المالية دون ان يكون هناك رابط ما بين عملية الانتاج والنظام المالي.

ولم تكن عملية ضخ العملات الغربية، وعلى رأسها الدولار الأمريكي، الى الأسواق بكميات ضخمة في مطلع القرن الجديد الا محاولة يائسة لتأجيل اعلان الانهيار، كما تركز التطبيل على ما يسمى بالاقتصاد الجديد اي المتاجرة باسهم شركات الاتصالات والهاتف والانترنت وتقنية المعلومات والكومبيوتر، وهو اقتصاد لا يحتاج الى هياكل تحتية ولا يستوجب عمالة كبيرة ولا مواد أولية. ان سمسرة البنوك والمؤسسات المالية وتقنية المعلومات لا يمكن ان تغني الشعوب عن التنمية الصناعية والزراعية التي تحتاجها شعوب العالم الثالث خاصة بشكل ملح.

وانطلاقا من قراءة الواقع الملموس الذي يهدد بالكارثة جاءت افكار ليندون لاروش ومؤسسته Executive Intelligence Review EiR في بناء منظومة نقل أوربية آسيوية وانشاء سكك حديد متطورة وسريعة وطرق نقل يرافقها القيام بمشاريع مياه تمتد من الموانئ الأوربية على المحيط الأطلسي الى الموانئ الصينية في الشرق على المحيط الهادئ مرورا بالشرق الأوسط وإنشاء مراكز زراعية وصناعية على طول هذه الشبكة لتكون شريانا يغذي الاقليم اذ سيمر هذا الطريق بأغنى مناطق العالم بالمواد الأولية وستعنى شبكة النقل بجلب التكنولوجيا المتقدمة من اوربا على شكل آلات ومكائن الى مناطق المشاريع. ويشكل انعدام البنية التحتية الفعالة لنقل المنتجات بين الدول النامية نفسها معضلة حقيقية حالت، ولا تزال، دون تطور التبادل التجاري الداخلي والخارجي، فالبلدان النامية حاليا والمستعمرات سابقا كانت في منأى عن التعاون الاقليمي الذي لم يسمح به عصر الكولونيالية حتى بعد انتهاء عهده. كما ان نظرة قصيرة على الخارطة الاوربية تبين بوضوح الكثافة الهائلة للطرق وسكك الحديد وقنوات النقل النهري وغيرها من مشاريع البنية التحتية المشتركة في حين لا تتمتع مستعمرات الأمس بابسط اشكال هذه البنية ولا ترتبط اقليميا فيما بينها بشكل يسمح لاقتصادها بالنمو.

على الرغم من الحملة الاعلامية للولايات المتحدة الأمريكية بأن اقتصادها بدأ ينتعش بعد احداث سبتمبر وان حربها في افغانستان قد حققت انتصارا عسكريا وأنها قادرة على توجيه ضربات عسكرية لبلدان اخرى وعلى رأسها العراق وعلى سحق من يقف في طريقها وان على اوربا ان تقف معها في حربها ضد العالم، يمكن مراقبة بداية صحوة اوربية خجولة في مواجهة السياسة الكونية الامريكية. والولايات المتحدة ليست وحدها في هذا المأزق، فبريطانيا تواجه أزمة داخلية ومعارضة شديدة لسياسة توني بلير التابعة للولايات المتحدة والحال لا يختلف كثيرا في الدول الصناعية الاخرى التي باتت تعيش واقعا اقتصاديا مزريا. أما اسرائيل التي ترى نفسها امتدادا للغرب المتقدم فقد استنزفت الانتفاضة المباركة طاقاتها الاقتصادية والمالية وأودت بقطاع كبير من صناعة المعلومات والالكترونيات الى جانب قطاعات اخرى بعد انكشاف سياساتها العسكرية الفاشية التي أثارت اشمئزاز العالم بينما اثبتت المقاومة الفلسطينية عجز الآلة العسكرية الاسرائيلية «الاسطورية» في تحقيق انتصار على الشعب الفلسطيني على الأرض، بل باتت الحكومة الصهيونية تواجه عصيانا عسكريا بين قواتها المسلحة.

العالم العربي هو حلقة الوصل الشرق الأوسط باعتباره أهم حلقة وصل بين آسيا وافريقيا واوربا يشكل قاعدة متقدمة ومثالية لطريق تنمية جديد اذا اعتمدت دوله سياسات اقتصادية موحدة في سياق نظام اقتصادي عالمي قائم على زيادة الانتاج واستثمار رؤوس الأموال في مشاريع حقيقية منتجة طويلة الأمد على أساس بناء تحتي وخلق آليات لتطبيق المشاريع التنموية.

المهم في افكار لاروش هو الموقف من الصراع العربي الاسرائيلي الذي يختلف جذريا في ادانته للصهيونية وللسياسات الفاشية لجيش الاحتلال في قمعه للشعب الفلسطيني، بل ان الرجل يعري في عمله السياسي في الولايات المتحدة قبل غيرها ليس اللوبي الصهيوني اليهودي وانما ما يسميهم بالصهاينة المسيحيين المتعصبين. كما أصدرت مؤسسته كتابا حول اكاذيب الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر وعواقبها الوخيمة، حيث يحاول المساهمون في الكتاب إثبات تورط قوى من داخل الحكومة الامريكية نفسها في تلك الاحداث واعتبارها محاولة انقلابية من داخل المؤسسة الحاكمة نفسها.

يبقى ان نذكر ان افكار لاروش ومؤسسته هي العمود الفقري لبرنامج حزب الماني يطلق على نفسه اسم (حركة المواطنين العادلة للتضامن) ويستعد لخوض الانتخابات المقبلة وتقف على رأس الحزب الالمانية هليغا تسيب ـ لاروش الصحفية والسياسية الناشطة وزوجة الاقتصادي الامريكي. ورغم ان الساحة الالمانية لا تخلو من القوى والأحزاب السياسية اليسارية وحتى الليبرالية التي تنتقد السياسة الاسرائيلية في قمعها وحربها ضد الشعب الفلسطيني تبقى السيدة لاروش وحزبها الوحيدين اللذين يتناولان الوضع في الشرق الأوسط بصراحة لم يعهدها المواطن الالماني الذي تعود وتربى منذ ان خسرت المانيا الحرب، على الحذر، بل الخوف من ان يوجه كلمة نقد الى كل ما من شأنه المساس بما هو يهودي أو صهيوني خوفا من اتهامه بمعاداة السامية وهي مهمة يضطلع بها بحماس كبير المجلس المركزي اليهودي عظيم النفوذ والذي يحظى بدعم شبه مطلق من الحكومة الالمانية والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة.

في حالة دخول هذا الحزب الى البرلمان الالماني تكون المانيا قد طوت مرحلة مهمة في تاريخها لما بعد الحرب العالمية الثانية وسيكون عليها النهوض بدور جديد وفاعل في صنع السياسة العالمية.

العالم يقف اليوم على مفترق طريق، وربما تكون هذه المشاريع الاقتصادية المقترحة النواة المادية الأولى لحوار بين الحضارات يمكن ان يؤسس لنهج يسير عليه المجتمع الانساني نحو سلام حقيقي قائم على اعادة الحق لاصحابه، والحضارة العربية والاسلامية التي عرفها التاريخ جسرا متينا بين الحضارة اليونانية وعصر النهضة الاوربية وصاحبة فضل حضاري كبير، يمكن لها، ان هي ارادت، ان تتبوأ مكانها من جديد وتسهم في تغيير حاضرها وبناء مستقبل كريم لشعوبها.

* كاتبة عراقية مقيمة في ألمانيا