الصدمة النفطية الثالثة

TT

تبدو الساحة العالمية على طريق تلقي الصدمة النفطية الثالثة، مع فارق أساسي يتمثل في ان الدول المنتجة للنفط تبدو هي الضحية، وليس كما كان عليه الأمر ابان الصدمتين الأولى والثانية عندما كانت الدول المستهلكة في جانب متلقي الصدمات.

الصدمة الأولى التي واكبت حرب تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1973 تفردت بقيام الدول المنتجة بتقرير أمر الإنتاج والأسعار بصورة منفردة لأول مرة في تاريخها، بل وخفض الإنتاج رفعا للأسعار واستخدام النفط سلاحا سياسيا. أما الصدمة الثانية فلعب العامل النفسي فيها الدور الأساسي، رغم توفر الامدادات. فقد أدى التخوف من اندلاع الثورة الايرانية وحالة الاضراب العام التي شملت الصناعة النفطية الى حدوث تدافع لتأمين الامدادات في اواخر عقد السبعينيات، الأمر الذي رفع الأسعار الى 40 دولارا للبرميل، وهو ما تكرر ولفترة قصيرة ابان حرب الخليج الثانية لاخراج القوات العراقية من الكويت.

هذه المرة وصلت الأسعار من خام ويست تكساس الأمريكي الى قرابة 40 دولارا للبرميل حتى قبل اندلاع الحرب، وهو ما يطرح السؤال حول المدى الذي يمكن أن تبلغه أسعار النفط مع بداية العمل العسكري والاطاحة بالنظام العراقي وانعكاسات كل ذلك على المنطقة.

وهكذا وعلى غير المرتين السابقتين يحدث خوف حقيقي من انقطاع الامدادات وترتفع الأسعار نتيجة لذلك بسبب تصرفات دولة مستهلكة، هي الولايات المتحدة التي تسعى الى اعادة صياغة للنظام العربي القائم على أسس جديدة.

الارتفاع الحالي في الأسعار يمكن تفسيره الى حد بعيد بسبب حالة عدم الوضوح، بل وعدم اليقين مما يمكن أن تؤول اليه أوضاع المنطقة حتى بعد الحسم العسكري. فالعبء الرئيسي يتمثل في نوعية الترتيبات التي سيكون عليها الوضع الجديد في العراق ومدى تأثر المنطقة التي تضم الاحتياطي النفطي الرئيسي للعالم.

والى جانب هذا العامل فهناك عوامل أخرى تتمثل بداية في تقليص الانتاج الكويتي، الذي سيفقد نحو 400 ألف برميل يوميا من الحقول الشمالية و300 الف أخرى من الحقول الغربية، الى جانب الهامش الضيق المتاح لزيادة الامدادات من خارج منطقة الشرق الأوسط عموما. فمع تراجع تأثير الاضراب في فنزويلا والعودة التدريجية للانتاج، الذي يقدر حجمه الراهن بحوالي 5، 1 مليون الى مليوني برميل يوميا، فان الصناعة النفطية الفنزويلية تحتاج في واقع الأمر الى فترة طويلة قبل أن تعود الى معدلاتها الانتاجية السابقة. وهناك أيضا الوضع في نيجيريا المرشح للدخول في حالة من عدم الاستقرار الشهر المقبل مع البدء في الانتخابات الرئاسية، التي يشوبها قدر كبير من عدم الاستقرار بسبب الاعتراضات على اعادة ترشيح الرئيس الحالي أوليسيجون أوباسانجو والتلويح باللجوء الى سلاح الاضراب الذي يمكن أن يطال الصناعة النفطية النيجيرية.

وهناك العامل الثالث المتمثل في تراجع حجم المخزونات التجارية الأمريكية، الذي كشف في الأسبوع الماضي انه في أقل مستوى له منذ سنوات، وهو ما يلفت الانتباه الى وضعية المخزون النفطي الاستراتيجي، حيث تحتفظ الولايات المتحدة فيه باحتياطي يبلغ 600 مليون برميل من أصل 700 مليون خطط للمخزون أن يحتويها، هذا بالاضافة الى المخزونات الاستراتيجية التجارية، التي تجاوزت المعدل المطلوب لتصل الى 9، 271 مليون برميل. وفي ما يتعلق باستخدام هذا المخزون هناك رأيان: الأول يرى أهمية اللجوء الى اطلاق جزء من هذا المخزون لطمأنة الأسواق مثلما حدث في المرة الأولى التي تم فيها تجريب المخزون ابان حرب الخليج الثانية، وخلال فترة رئاسة جورج بوش الأب. بينما يرى الثاني ان الارتفاع الحالي في الأسعار نفسي وان سرعة الحسم مع ترك الأمر لدول أوبك أن تضخ ما تشاء من كميات نفط إضافية كفيل بطمأنة الأسواق ومن ثم فلا حاجة الى اللجوء الى المخزون الاستراتيجي.

دول أوبك التي ستجتمع يوم الثلاثاء المقبل ستواجه باتخاذ قرار، هو في واقع الأمر تقنين لما هو سائد حاليا، والمتمثل في ترك الحرية للدول الأعضاء للانتاج كما تريد، اي تعليق العمل بنظام الحصص. خطوة مثل هذه قامت بها أوبك من قبل سواء بصورة جماعية أو منفردة، اي ضخ أكبر كميات ممكنة من الانتاج تطمينا للأسواق أو استفادة من فرص متاحة، مثلما حدث من قبل ابان حرب الخليج الثانية أو ابان الحرب العراقية الايرانية، كما تم تعليق العمل بنظام الحصص والتركيز على بناء نصيب المنظمة في السوق لفترة عشر سنوات تمكنت خلالها أوبك من زيادة نصيبها بحوالي المليون برميل يوميا كل عام، حتى فرضت عليها الأزمة الآسيوية في العام 1998 العودة الى تقييد الانتاج والدفاع عن السعر.

هذه المرة سيعمل السعر المرتفع على تقليص فرصة النمو في الطلب على النفط، والتقديرات تشير في كل الأحوال الى نمو ضعيف يقل عن المليون برميل يوميا، خلال هذا العام، يتنازع المنتجون من داخل وخارج أوبك على نيل حصتهم فيه. ثم هناك التأثير الأكبر المتوقع في الأوضاع الاقتصادية في البلدان الصناعية المستهلك الرئيسي للنفط، اذ يخشى أن تؤدي أسعار النفط المرتفعة الى تكرار الظاهرة التي شهدها عقد السبعينيات عندما تزامن التضخم مع انعدام النمو، وهي الحالة التي ستجعل من الصعوبة بمكان تفعيل آليات النمو الاقتصادي. وما يفاقم في الوضع حالة عدم اليقين والوضوح التي تظلل منطقة الشرق الأوسط لفترة طويلة.

ومع أن الأسعار المرتفعة في الوقت الراهن توفر للدول المنتجة فرصة لتحقيق عوائد مالية كبيرة لم يكن مخططا لها، لكن لا ينبغي نسيان حقيقة ان هذا المعدل السعري العالي يزيد بأكثر من عشرة دولارات في البرميل على المعدل الذي تراه الدول المنتجة مناسبا لها وللمستهلكين وللأوضاع في السوق عموما. وبعبارة أخرى، فان السعر المرتفع دخل مرحلة التأثير السلبي تماما مثلما هو عليه الوضع مع السعر المنخفض.

هل ستتجه أوبك الى اعتماد سياسة تعليق الحصص حتى بعد الحسم العسكري في العراق، وذلك لدفع الأسعار الى أسفل، ومن ثم تنشيط الطلب على النفط؟ ومع ما في هذه الاستراتيجية من تدعيم لفكرة التعاون والحوار بين المنتجين والمستهلكين، الا ان حالة الغموض وعدم الوضوح التي تحيط باجمالي الوضع السياسي في العراق حتى بعد الحسم وانعكاسات كل ذلك على المنطقة سيبقى العامل الرئيسي الذي يجعل المنطقة مفتوحة على كل الاتجاهات وفي كل الساحات السياسية والنفطية والاستراتيجية.