مسرحية الباء: «بغداد ـ بيونغ يانغ» ـ «بليكس ـ برادعي ـ باول»

TT

التشاؤم احساس قديم، تراكم ليتعدى مرحلة الظاهرة وصولا الى القيمة الاجتماعية، فاقترب العرب من الاجماع على التشاؤم من بعض الطيور، وفي مقدمتها الغراب، وربما ومن مثل هذه العلاقة الغريبة مع بعض الطيور، واقول بذلك اجتهادا، جاء قول الله تعالى في سورة يس «قالوا انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب اليم. قالوا طائركم معكم لئن ذكرتم بل انتم قوم مسرفون» والتطير هو التشاؤم.

ولدى الحضارة الغربية بكل ماديتها نصيب من التشاؤم، وتكفي الاشارة هنا الى الفيلسوف الالماني ارثر شوبنهاور (1788 ـ 1860) صاحب كتاب العالم كارادة وفكرة، والذي اسماه البعض فيلسوف التشاؤم.

وللصدفة ايضا نصيب من التعاطي الاجتماعي والفلسفي، فتجدها عند العرب في الامثال والاشعار، وهم القائلون: رب صدفة خير من وعد، وفي حضارات الغرب القديمة تداعت الى الحد الذي قطع فيه الفلاسفة الماديون بأنها وراء وجود هذا العالم، وذلك ضمن الجدل الفلسفي الميتافيزيقي في اتجاهاته لاثبات وجود الله، وقد تصدى لها الفيلسوف الالماني المعروف عمانوئيل كنت (1724 ـ 1804) ليقول انه ليس لدينا ميراث يبرهن على انها تستطيع ادارة عالم كهذا بحركة منتظمة مثل هذه، وليختتم بعباراته الشهيرة بعد ان احصى سبعة ادلة لوجود الله، وسبعة اخرى تناقضها، ليعتبر قضية الايمان مسألة اخلاقية ويقول «شيئان خالدان، السماء ذات النجوم من فوقي، والضمير الاخلاقي في صدري».

هدف هذه الفذلكة حول «الصدفة» و«التشاؤم» سياسي في النهاية، وميتافيزيقي في بعض ابعاده، ومصدره هذه العواصم والاسماء التي تحتل منذ نهايات القرن العشرين والى اليوم موضوع الصدارة سواء على صعيد قوتها ومخاطرها او على صعيد التغطيات الاعلامية التي لم تتخلف عنها قناة تلفزيونية او اذاعة او مطبوعة، وبكل لغات الدنيا.

وهنا نتوقف مع الصدفة لنتساءل، ما هي علاقتها بحرف «الباء» للحد الذي يمكن ان يرتقي معه الوصف للعلاقة ـ للانتقال بها من مجرد الصدفة ذاتها، وقوفا مع «عمانوئيل كنت» الذي اقعدها عن القدرة على تنظيم وخلق عمل هائل مثل الكون وحركته، لاننا هنا وبالوقوف مع حرف «الباء» نجد ان الصدفة كانت قادرة تماما على ايقاف كل حركة السياسة خلال اربع سنوات، اما على عواصم تبدأ بـ «الباء» واما على اسماء تبدأ بـ «الباء»، ومن عجب انها لم تكتف بكل ذلك، لانها وحين تفشل في ان تكون «الباء» بداية لاسم الشهرة لحاكم، تستعيض عنه باسم «عاصمة» بلاده، ودعونا نتساءل، ولماذا العاصمة تحديدا، وليس اي مدينة اخرى، وحين لا يتوفر لها ذلك، تستعيض عنه باسم البلد ذاته.. وتعالوا نقرأ.

اذا كانت قضايانا السياسية منذ مشكلة كوسوفو، مرورا باحداث 11 سبتمبر 2001 ونهاية بغزو افغانستان والازمة القائمة الى اليوم حول نزع اسلحة الدمار الشامل في العراق وكوريا الشمالية، فلكل هذه القضايا علاقة عضوية بـ «الباء». ولنا ان نقول هنا، ان هذه القضايا وبالتعمق فيها يمكن ان تكون واجهات لصراع اعمق لجهة صدام الحضارات والارهاب والسيطرة على منابع النفط او التحكم في اسعاره، وهنا ايضا نجد ان «للباء» نصيبا.

فلنبدأ بأزمة كوسوفو، حيث تكفي الاشارة الى ان بطل المسرحية كلها كان ميلوسيفيتش القابع الآن في لاهاي امام محكمة جرائم الحرب الدولية، ونكتفي هنا فقط بالقول ان عاصمته «بلغراد» هي التي ومن كل عواصم الدنيا، وعلى مر التاريخ، كانت مسرحا لاطول حرب تبارى فيها جيل الاسلحة الثالث لـ 78 يوما حولها فيها الى خراب دون ان يخسر الناتو الذي شن الحرب جنديا واحدا، فقاربت الصحافة الغربية بين الامر ومباريات كرة القدم او السلة، فاطلقت عليها «حرب 78:0» وتشاء الصدفة فيها ان تكون سفارة «بكين» عاصمة الصين هي السفارة الوحيدة من كل سفارات الدنيا التي اصابها القصف خطأ لينشئ ازمة كبرى بين اميركا والصين انتهت بدفع التعويضات المعروفة.

ولنأتي لحرب افغانستان، لنجد ان الحرب قد استهدفت ولا تزال تعقب تنظيم القاعدة، في حرب ضد الارهاب، ولكن «الباء» تتدخل هنا، لتجعل قائد الحرب «بوش» وقائد القاعدة «بن لادن» والبلد المحوري في نجاح الحرب من عدمه «باكستان» والرجل الذي حزم امره وتخطى كل الخطوط الممكنة، وجازف بوضعه السياسي هو رئيسها «برويز مشرف» ولنا ان نحمل «الباء» هنا ما لا طاقة لها به، لنقول ان هذه الحرب وبرموزها الثلاثة تلامس صراع الحضارات والحرب ضد الارهاب وتداعيات خطرة على العالمين العربي والاسلامي، لان «الباء» قد امعنت بعد ذلك في التخصيص، حين اختار تنظيم القاعدة او ايا كان، اكبر عملية رد على طرد القاعدة وطالبان من افغانستان، مدينة نائية في اندونيسيا، فقام بنسف ملهى ليلي وقتل عشرات السياح الغربيين، لتجعل الصدفة ان اسم المدينة «بالي» فأي صدفة هذه التي تختار اسما يبدأ بالباء في بلد هو اندونيسيا يتكون من 13 ألف جزيرة؟

ونختتم اخيرا، بالحرب على نزع اسلحة الدمار الشامل، بشقها الدبلوماسي حاضرا، والعسكري لاحقا، لنجد ان عاصمتي العراق وكوريا الشمالية هما «بغداد» و«بيونغ يانغ» وتتجلى الصدفة لاحقا ومع اشتداد الازمة باستحقاقات القرار 1441 الذي اخضع العراق لعمليات التفتيش، لتقول لنا الصدفة ان رئيس فرق التفتيش هو «بليكس»، وان رئيسه في المهمة هو «برادعي» وان الرجل الذي جعل القرار 1441 يفوز بالاجماع لتسميه الصحافة 15:0 كما اسمت الحرب على «بلغراد» 78:0 هو وزير الخارجية الاميركي «باول».

وتصر الصدفة الى الامس القريب وبعد الخلاف على استجابة العراق لنزع اسلحته، ان تكون دول مثل الصين وروسيا وفرنسا والمانيا هي التي تتململ من انفراد اميركا بعمل عسكري، ولكن عواصم ثلاث دول هي المانيا وفرنسا والصين تعانق الباء حيث «بون» و«باريس» و«بكين»، فيما تخلفت موسكو عن حرف «الباء» لتعوض ذلك باسم رئيسها «بوتين» وتزداد الصدفة اصرارا لتجعل من الحليف الاكبر لاميركا في القضية القائمة مع العراق دولة هي «بريطانيا» وبرئيس وزرائها «بلير».

نحن امام مسرحية «الباء» التي لو عاشها «عمانوئيل كنت» لوجد انها وبعد فشلها في تنظيم حركة كون هائلة لا يستطيعها الا خالق جبار هو الله، تسربت الى نفوس شعوب الخالق على الارض فجعلتهم «بالصدفة» يختارون اسماء لرؤساء وعواصم وبلاد تبدأ بـ «الباء» فتتصدر احداث الدنيا في معظم «البلاد» «وبلاء» ذاتها تنضم هنا الى المسرحية.

وهي مسرحية الباء التي لو عاشها الشاعر العربي الكندي لتعمقت عنده فكرة التشاؤم السائدة مع الطيور، وهو الذي ترفع على صغائر بني عمه في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:

وان الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

فإن زجروا طيرا بنحس تمر بي

زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

ومع ذلك، فرب قارئ يقول انها الصدفة فقط، ولا شيء في هذا الامر يستحق التأمل او التوقف، ولكني اقول ان هناك ما يستحق التوقف حتى باستبعاد الصدفة، وليس بالضرورة «التشاؤم» باستدعاء المزاج العربي والاثمان الباهظة التي دفعها التضامن العربي ـ العربي منذ غزو الكويت من «بغداد» في 2 اغسطس 1990 وباستدعاء المزاج الاسلامي والاثمان الباهظة التي دفعها التضامن الاسلامي ـ الاسلامي منذ حرب الثماني سنوات التي شنتها بغداد على ايران، دعك عن الحرب القادمة التي سيدفع فيها العالم العربي والاسلامي الكثير على خلفية الصراع حول المصالح النفطية واعادة تسعير النفط وعنه ايضا تقول لنا «الباء» انه «بترول».