لماذا حكومة عراقية وليس جنرالات أميركيون؟

TT

الضباب السياسي في طريقه إلى الجلاء، والحالة في العراق تُنبئ بخير اذا ما سارت الأمور كما يشتهي العراقيون في المعارضة، وخصوصا أولئك الذين في طريقهم الى إعلان العد التنازلي لإسقاط نظام صدام حسين من كردستان العراق.

على غير العادة، لم تكن حرارة الشمس وراء ذلك الجلاء، بل عاصفة ثلجية وأمور أخرى. فالعاصفة الثلجية التي ضربت العاصمة الاميركية واشنطن، خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وما تسببت به من بقاء الناس، ومنهم السياسيون في واشنطن، في بيوتهم، تزامنت مع وصول رسائل مفتوحة عبر الإعلام إلى الساسة هناك، من شخصيات عراقية معارضة مرموقة، اتخذت من كردستان العراق مقرا لها للمشاركة في المنازلة الأخيرة مع نظام صدام، ومن ثم التوجه الى بغداد للبدء ببناء بلد جديد حالما تهدأ عاصفة الحرب. المحتوى الهام لتلك الرسائل العلنية كان يحتاج من الساسة في واشنطن الى هدوء وإلى سكون نفسي كبير، لكي يتمعنوا بها ويفهموها جيدا. وكان ذلك بالضبط، ما منحتهم إياه العاصفة الثلجية. فالصفاء الذهني وخلو الشوارع من الناس والسلام المحسوس الذي خلقته العاصفة الثلجية في أزقة ومحلات واشنطن الضيقة، قد أعانتهم على هضم حيثيات الحالة وإدراك مفرداتها.

رسائل احمد الجلبي وكنعان مكية ببساطة تقول: ان من مصلحة العراق وأميركا أن يحكمه العراقيون من المعارضة في الخارج والداخل، وبصورة مباشرة، وليس جنرالات أميركيون. وازع الرسائل كان سببه علم المعارضة العراقية بخطط اميركية أولية برزت مؤخرا، تشير الى وجود رغبة أميركية لحكم العراق بطريقة تبتعد عن تجربة الاحتلال الاميركي والسيطرة السياسية غير المباشرة على اليابان (1945 ـ 1952)، في كونها اكثر تسلطا وسيطرة على زمام الأمور كاملة في البلد، وربما تتجاوز تلك السيطرة والتحكم التامين تجربة الاحتلال الاميركي والسيطرة السياسية المباشرة على ألمانيا (1944 ـ 1949).

وعلى هذا، يبدو ان العراقيين، في المعارضة، لا يعترضون على الوجود الاميركي في العراق بحد ذاته، بل يعترضون على شكل الوجود، وتأثيره في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العراق بعد التحرير. وهم محقون في ذلك الى ابعد حد. فنظرة بسيطة الى طبيعة الاحتلال الاميركي لليابان وتجربة واشنطن هناك، يتأكد ان الاميركيين أنفسهم يولون، اهتماما واضحا، للفوارق الحضارية، حيث ان اختيار أميركا لإدارة شؤون اليابان، إبان الاحتلال، بصورة غير مباشرة (أي من خلال حكومة يابانية تنفيذية، وأخرى برلمانية تشريعية تحت إشراف حكومة اميركية عسكرية) كان عائدا لأسباب الاختلاف الحضاري العميق بين الاميركي، الاوروبي، المسيحي، والآسيوي الياباني، الشنتوي (الديانة الغالبة في اليابان) لكن المشكلة اكبر من ذلك بكثير، حين يتم النظر الى الحالة العراقية. فبالرغم من توفر عامل الاختلاف الحضاري، الا ان ما يجعل هذه المعضلة اكثر خطورة هو ان الاميركيين سيذهبون الى العراق وفي اعتقادهم ان قراءة قسم من المسلمين الخاطئة للدين الإسلامي، والتشدد والتطرف في السلوك العام عند بعضهم، هي احد أسباب تعرض أميركا للإرهاب. فكثير من المعلقين والكتاب السياسيين في أميركا عزوا وجود ظاهرة التطرف وعدم التسامح الديني في المجتمع الباكستاني مثلا، الى برنامج التعليم الفاشل المعتمد هناك.

وعلى هذا الأساس، إذا ما حكم العراق من خلال جنرالات اميركيين، فسيعمل هؤلاء على تطبيق أول برنامج إصلاحي للتعليم في الشرق الأوسط، وعلى أساس ملاحظات واستنتاجات اعتمدت على استقراء الواقع الشرق أوسطي (الباكستاني والأفغاني مثلا)، والذي لا يحمل صفات تشابه كثيرة مع واقع الحال في العراق. فالساحة العراقية تكاد تخلو من أي علامة للتطرف والتشدد الديني، أو العداء للغرب، على الأقل حتى هذا الوقت. وجود هذا الاعتقاد في العقل السياسي الاميركي، سيجعله يتعامل مع مواضيع معينة، منها التعليم مثلا، بأسلوب قد لا يحلو للعراقيين. المثال الذي توفره تجربة الاحتلال الاميركي لليابان، والطريقة التي تعاملوا بها مع المناهج الدراسية، كانت جيدة وسيئة في آن. الجزء الجيد تضمّنه إلغاء الاميركيين للمناهج التي تشجع الغلو في الوطنية والقومية، التي كانت جزءا من الأسباب (بالإضافة الى نقص المواد الخام في الصناعة اليابانية) التي دفعت اليابان الى طريق الاعتداء والتوسع العسكري في المنطقة، ومن ثم الاصطدام بالاميركيين. ولا اعتقد ان هناك من سيختلف معي، إذا ما صنّفت في باب الخير، إلغاء الاميركيين لشعائر عبادة الإمبراطور هيراهيتو الدينية، التي كانت تمارس في جميع المدارس اليابانية. ولكن المخيف، هو ان يكرر الاميركيون أخطاء الماضي، حين ادخل القائد العام في اليابان، الجنرال مكارثر 100 مليون نسخة انجيل باللغة اليابانية لتشجيع الديانة المسيحية. هذا الأمر لم يتسبب باندلاع اضطرابات شعبية في طوكيو والمدن اليابانية الأخرى، ولكن التجربة أثبتت فشل استغلال ديانات الشعوب الرازحة تحت الاحتلال، في جني ثمار سياسية معينة حيث يذكر كاتب ياباني ان اليابانيين يفضلوا اخذ الاناجيل الصغيرة في جيوبهم لانهم راوا فيها ذخيرة مجانية يستخدمونها عندما تنفد لديهم اوراق السجائر. يبدو لي ان دافع أميركا لتطبيق إصلاحات في المجال التعليمي والحضاري بالعراق، اكبر مما كان عليه الحال مع اليابان، اعتمادا على الافتراض الخاطئ من ان شعب العراق لا يختلف عن باقي الشعوب في المنطقة من ناحية كرهه للاميركيين. وتاليا لن يكون غريبا ان نرى دخول عدد كبير من الاناجيل المترجمة الى اللغة العربية الى العراق بعد التحرير اعتقادا من الجنرالات بأن من شأن ذلك ان يغير الكراهية للاميركيين في الشرق الاوسط. من السهل عليّ ومن الآن، ان أتنبأ بفشل أي عملية إصلاح مدني تغفل خصوصية الشعب العراقي وتتجاهل قواه السياسية المتمثلة بالمعارضة العراقية في الوقت الحاضر. وإذا كان أبرز الكُتاب الاميركيين في الوقت الراهن هو توماس فريدمان يشكك بمقدرة الادارة الاميركية الحالية على اعادة بناء العراق مشبها اياه بالفخار الذي يصعب اصلاحه اذا ما انكسر، فكيف نستطيع نحن العراقيين ان نطمئن الى ان الاميركيين لن يرتكبوا اخطاء جوهرية في عملية ادارة بلد ذي حضارة تختلف تماما عن الحضارة الغربية؟

ما يمنح رسائل احمد الجلبي وكنعان مكية أهمية بالغة، في الوقت الحاضر، هو انها جاءت من ارض عراقية محررة (كردستان العراق)، وأكثر من ذلك انهما يلقيان الضوء على نواح أساسية مطلوبة اذا ما كانت هناك نية حقيقة لبناء العراق بعد التحرير. فالعراقيون الذين سيجتمعون في مصيف صلاح الدين في كردستان العراق، سيقولون للاميركيين ان العراقيين يعرفون كيف يصلحون فخارهم المكسور وبما يصب في النهاية في مصلحة اميركا التي اعلنت بلسان مسؤولين كبار في ادارتها عن رغبتها في عراق ديمقراطي يكون مثلا يحتذى به.

والعراقيون بذلك لا يريدون غير معين خصوصا ان المعارضة العراقية تشكو من الصقيع السياسي الذي يخيم على علاقتها مع اغلب الحكومات العربية، والذي لا شك في ان تذيبه عواصف الشرق الاوسط الرملية الحارة.

* كاتب وطبيب عراقي مقيم في واشنطن

[email protected]