الجنيه المصري بلا دفاعات في سوق المضاربة

TT

هدأت عاصفة الهواجس والأمنيات والتعليقات على قرار الحكومة المصرية بتحرير سعر الصرف، في انتظار تأثيرات القرار في الواقع.

بداية لابد من التأكيد على أن سعر صرف أي عملة ليس هدفا في حد ذاته، لكنه وسيلة، أو آلية لتحقيق أهداف اقتصادية أخرى، تتعلق بإنعاش الاقتصاد وزيادة جاذبيته لرؤوس الأموال والسياح من مختلف بلدان العالم، وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد وصادراته السلعية والخدمية، وتحقيق التوازن في المعاملات الخارجية، وضمان شروط عادلة لهذه المعاملات في مجملها. ويتم الحكم على سعر الصرف انطلاقا من تحقيقه لهذه الأهداف أو فشله في ذلك.

والحقيقة أن إعلان القرار من قبل رئيس الوزراء، أمام مؤتمر عقدته مؤسسة بريطانية خاصة، هو أمر غير لائق بمكانة مصر كدولة قائدة في إقليمها. أما توقيت اتخاذ القرار فإنه غير موفق على الإطلاق حتى بغض النظر عن صحته أو خطئه. فقد جاء القرار في وقت تعاني فيه مصر من عجز كبير في ميزانها التجاري يقدر بأكثر من 8 مليارات دولار في العام المالي 2001/2002، وفقا للبيانات الرسمية المصرية، وتعاني أيضا من عدم تعافي قطاع السياحة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، رغم الجهود الرسمية التي بذلت في هذا الصدد. وهذا القطاع مهدد بالانتكاس إذا قامت الولايات المتحدة بشن عدوان شامل على العراق يمكن أن يؤدي إلى اضطراب الأمن، وإلى تصاعد التطرف في المنطقة عموما بكل التأثيرات السلبية لذلك على حركة السياحة. كما جاء القرار في وقت تتراجع فيه تحويلات العمالة التي تعد مصدرا رئيسيا للعملات الحرة في مصر، وهو التراجع الذي من المحتمل أن يتزايد إذا تمكنت الولايات المتحدة من غزو العراق واحتلاله واستغلال ثروته النفطية في تخفيض أسعار النفط، بما يؤدي لانخفاض إيرادات الصادرات النفطية وحدوث ركود اقتصادي عميق وانخفاض كبير في مستويات الدخول في بلدان الخليج، التي ستضطر عندها لاتخاذ إجراءات تقشفية وتقليص العمالة الأجنبية لديها بشكل كبير. وفضلا عن كل ذلك فإن الطلب الكبير على النقد الأجنبي لتمويل النشاطات غير المشروعة، مثل تجارة المخدرات والسلاح وتهريب أموال الفساد والاقتصاد الأسود للخارج، تعد عاملا ضاغطا على سعر صرف الجنيه واستقراره.

كما أن الانهيار المحتمل لأسعار النفط بعد العدوان الاميركي المزمع ضد العراق يعني وجود احتمال قوي بتراجع إيرادات مصر من تصديره. كما أن القرار اتخذ في موسم الحج حيث يكون هناك طلب كبير على العملات الحرة وهو توقيت غير ملائم أيضا.

فضلا عن كل ما سبق، فإن هناك مشكلة طويلة الأمد في نظام سعر الصرف في مصر، تتمثل في ربط الجنيه المصري بالدولار، بما يجعل الجنيه المصري يتحرك مقابل العملات الحرة الأخرى بشكل تابع لحركة الدولار أمامها، ودون أن يكون لحركته أمامها أي مبررات اقتصادية. وكان من الضروري قبل تحرير سعر صرف الجنيه المصري، أن يتم حل هذه المشكلة، وتغيير نظام سعر الصرف في مصر بربط الجنيه المصري بوحدة حقوق السحب الخاصة، أو بسلة من العملات الحرة الرئيسية وفي مقدمتها اليورو والدولار والين الياباني. كذلك فإن عدم سيادة الجنيه المصري في سوقه والسماح لكل العملات الأخرى بمزاحمته في التعاملات المباشرة من بيع وشراء، والسماح أيضا، بسحب أرصدة العملات الحرة للتعامل بها في الداخل قبل تحويلها إلى جنيهات بالسعر المعلن، يجعل الجنيه بلا أسلحة في ظل تحريره، وبالتالي فإنه يكون معرضا للتدهور الشديد في أي معركة للمضاربة ضده.

ورغم أنه كانت هناك آليات أخرى لإصلاح سوق الصرف، أو تهيئة الاقتصاد المصري أولا، لاتخاذ مثل هذا القرار، إلا أن الحكومة اختارت اتخاذ القرار بشكل ينطوي على الكثير من التسرع وعدم التقدير للظروف المحيطة بالاقتصاد المصري.

وقد نتج عن هذا القرار، انخفاض كبير وفوري لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار بنسبة بلغت 23% حتى الآن، وانخفاضات قريبة من هذا المعدل، مقابل العملات الحرة الأخرى، وهي مرشحة للتواصل والتزايد. ومن المفترض أن يؤدي ذلك إلى تقليص الواردات التي سيرتفع سعرها مقوما بالجنيه المصري مما يقلل قدرتها التنافسية، لكن هذا التقليص للواردات مرتبط بقدرة مصر على الاستغناء عنها أو إنتاج بدائل لها، ومرتبط أيضا بثبات أسعار السلع المحلية البديلة كشرط أساسي لتقليل القدرة التنافسية للواردات في السوق المحلية، وهو ما تبدد جانب مهم منه من اللحظة الأولى من اتخاذ القرار حيث قام غالبية المنتجين المحليين بمن فيهم منتجو السلع الزراعية، برفع أسعار منتجاتهم بنسب متفاوتة، سواء كانت هذه المنتجات تتضمن مكونا أجنبيا أو منتجا محليا خالصا.

ومن المفترض أيضا أن يؤدي القرار إلى زيادة الصادرات، لكن هذا مرتبط بأن يكون لدى مصر إنتاج سلعي قابل للتصدير وقادر على المنافسة من زاوية الجودة والمواصفات، وأن تستمر أسعاره ثابتة أو شبه ثابتة كما كان الوضع قبل انخفاض سعر صرف الجنيه المصري في أعقاب تحريره، وأن يكون هناك طلب خارجي عليه، وهي أمور كلها محل شك أو توجد شواهد على أن ما حدث بشأنها بعد تحرير سعر صرف الجنيه وانخفاضه، يعد غير موات لزيادة الصادرات المصرية. وبالتالي فإن التعويل على هذا القرار في تحسين الميزان التجاري بشكل جدي أمر غير منطقي في ظل معطيات الواقع الاقتصادي المصري.

كما أن القرار سيزيد جاذبية مصر للمستثمرين والسياح الأجانب لأن قدرتهم الشرائية فيها سترتفع بقوة بعد القرار الذي أدى إلى تخفيض الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الحرة الأخرى، لكن تحقيق زيادة في الاستثمارات الأجنبية يتطلب أمورا أخرى قد تكون أكثر أهمية بكثير من تغيير سعر الصرف، مثل تحسين مستوى الشفافية ومكافحة الفساد المستشري، والقضاء على التعقيدات البيروقراطية وضبط المواصفات وحماية حقوق الملكية الفكرية في السوق المصرية.

أما الأثر المؤكد للقرار فهو التدهور السريع لسعر صرف الجنيه المصري وارتفاع أسعار كل السلع المستوردة، التي تشمل سلعا أساسية مثل القمح ودقيقه والسكر والزيت، مما سيرفع معدل التضخم بشكل كبير، بعد أن كان تخفيض هذا المعدل أحد أهم النتائج الإيجابية للسياسات الاقتصادية منذ تطبيق برنامج التثبيت الاقتصادي عام 1991. وإذا أرادت الدولة إبقاء أسعار هذه السلع الأساسية ثابتة، فسوف يكون عليها زيادة مخصصات الدعم وزيادة العجز في الموازنة العامة للدولة بكل آثاره السلبية. وكان العجز في الموازنة العامة للدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، قد تزايد بشكل مطرد ليرتفع من 1% في العام المالي 1998/1997، إلى 5.8% في العام المالي 2002/2001، ليبلغ حد الخطر الذي يمكن أن يطلق التضخم من عقاله مرة أخرى. أما إذا اختارت الحكومة ألا ترفع مخصصات الدعم فإن أسعار السلع الأساسية سترتفع وستزداد أوضاع الفقراء ومحدودي الدخل سوءا بكل ما يعنيه ذلك من ظلم اجتماعي ومعاناة لهذه الفئات التي تعيش ظروفا معيشية صعبة اصلا، وبكل ما يستتبعه ذلك من تأثيرات متتابعة قد تهز الاستقرار السياسي والاجتماعي في مصر.

كما أن القرار وضع الجنيه المصري تحت رحمة قوى السوق السوداء. وعند أي مختنق للنقد الأجنبي وللاقتصاد المصري عموما، فإن قوة المضاربين القادمين من الاقتصاد الأسود، تتضاعف عدة مرات باندفاعهم نحو شراء النقد الأجنبي مقابل الدولار بما يشيعه ذلك من اضطراب وعدم ثقة بالاقتصاد. وفوق كل هذا فإن القرار يفقد مدخرات الطبقة الوسطى، التي تمتلك الغالبية الساحقة من المدخرات في الجهاز المصرفي، جزءا مهما من قدرتها الشرائية، بما قد يؤدي إلى تراجع المدخرات عموما والاتجاه إلى الادخار بالعملات الحرة بدلا من الجنيه وارتفاع معدل الدولرة بقوة، بما سيؤثر على العملة المصرية سلبا بصورة أعمق وأطول أجلا.

* رئيس تحرير التقرير السنوي «الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية» بالأهرام*