بديل المبادرة الإماراتية تدهور شامل

TT

هناك عدة مواقف رئيسة على الساحة يساء فهمها ويتم تجاهلها وتهدرها طواحين الغوغائية، مما يمهد عملياً لمواصلة الانحدار السريع نحو الهاوية. احدث هذه المواقف هو مبادرة (رسالة) الشيخ زايد لمؤتمر القمة العربية الاخير في شرم الشيخ. لقد تم التركيز فوراً على عنصر واحد من المبادرة وهو تنحي الرئيس صدام حسين، والذي طرح من البعض وكأنه عزل ونفي، وتم تجاهل البنود الاخرى في المبادرة التي تشوهت ونظر اليها سلبياً او اهملت اصلاً. عناصر تلك المبادرة هي: تنحي الرئيس صدام والقيادة العراقية خلال اسبوعين من تبني القمة للمبادرة، ومنحهم عفواً وضماناً دولياً بعدم الملاحقة. البند الثاني، هو العفو العام عن العراقيين في الداخل والخارج. البند الثالث، وهو الاهم، يدور حول التطبيق، بالتعاون بين الجامعة العربية والامم المتحدة، للاشراف المشترك والمؤقت على العراق واتخاذ التدابير الادارية والسياسية لاعادة الوضع لحالته الطبيعية للشعب العراقي. لهذه المبادرة ثلاثة عناوين يمكن ان ترسل اليها. الاول هو الرئيس صدام الذي يفترض انه يعرف اكثر من غيره الخيارات المتاحة وقدرات البلاد على صد هجوم اميركي ام لا، وبالتالي يمكنه التخير بين اخذ المبادرة وتشجيعها، او رفضها من منطلق قدرات الرد على الهجوم ودحره والحفاظ على شعب وارض العراق. ومن نافلة القول ان الرئيس رفض في السابق أي افكار تؤدي لابعاده مهما كانت مصلحة البلاد. العنوان الثاني للمبادرة هو الجامعة والقمة العربية وذلك لسببين، كون الجامعة عنصرا مُنفذا للحل المقترح في المبادرة، ولان العرب وعبر ميثاقهم وانتمائهم ملتزمون بالعراق ومصيره. لكن وزير خارجية العراق رفض المبادرة وشتم اصحابها، كما ان الجامعة والقمة لم تناقشا المبادرة رسمياً، رغم ان معظم المشاركين فيها لا يرون حلولاً اخرى ولا يعرفون فرص العراق الدفاعية اذا وقعت الحرب. العنوان الثالث للمبادرة هو الامم المتحدة، ولكن بعد موافقة عربية، لأن دور المنظمة الدولية مرتهن، حسب المبادرة، باشتراك من الجامعة العربية. اذا رفضت هذه العناوين تسلم الرسالة الاماراتية والتجاوب معها، فليس من مهمة احد طرح الامر على مؤتمرات اخرى، فإما ان تكون الجامعة العربية مشاركاً اساسياً والا فالافضل نسيان القصة. ماذا يمكن للمبادرة ان تحققه ايجابياً وما تمهد له سلبياً ايضاً؟ سلبياتها تدور في حلقة تنازل الجامعة العربية عن مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى! وهو فكرة عقيمة من يومها الاول، كونها تتنافى مع فكرة الترابط عبر الجامعة واهدافها في الوحدة والتعاون. كيف يمكن للجامعة ان تحقق غاياتها وهي مقيدة لذاتها بذلك المبدأ الهلامي الذي لا يفرق بين التدخل الاداري السياسي وضرورة الانقاذ من الموت؟ سلبية اخرى للمبادرة هي الظهور كمن انصاع للرغبة الاميركية في تغيير الرئيس العراقي، وهذه قضية فلسفية طبعاً ونفسية ولا وزن لها في مقابل انقاذ البلاد وفي ظل غياب البدائل. لكن اكثر ما سيعطل المبادرة هو التخوف من فرط حبات المسبحة، أي خوف بعض الزعماء على مواقعهم اذا تشجعت شعوبهم لاحقاً للتقليد. ايجابيات المبادرة: اعادة الروح للجامعة العربية سياسياً وادارياً على مستوى الاقليم والعالم لتنفذ حلاً ينقذ شعباً عربياً، ويحافظ على أمن وحدود العراق، ويمنع عدواناً اجنبياً لا يعرف احد توابعه. انهاء التلاعب بمصير الشعب العراقي والحصار والاضطهاد الواقع عليه بحجة التصدي لنظامه. فتح المجال لاقامة نظام ديمقراطي بمشاركة واشراف دولي مما سيلغي اطروحة تفرد اسرائيل بالديمقراطية في المنطقة، كما ان هذا الحل سيفتح المجال امام تقليده في فلسطين، أي اشراف دولي وجامعة عربية على امن الفلسطينيين والاسرائيليين واقامة نظام ديمقراطي فلسطيني. عند قياس سلبيات وايجابيات المبادرة الاماراتية يجب تذكر ان العرب لم يخلقوا مشكلة العراق، بل النظام هو الذي خلقها عندما احتل الكويت مخلاً بأسس النظام العربي القائم، وهو الذي واصل الانتحار البطيء برفضه التصالح مع الجيران، والتصليح للاخطاء، والاصلاح الداخلي. ما يفعله العرب الان، من قليل او كثير، يراد منه انقاذ ما لم يكن بيدهم اهداره وتخريبه اصلاً، وبالتالي من الضحالة والتهابل وضع اللوم الان فيما ستؤول اليه الاوضاع العراقية على العرب. القضية هنا ليست اذا كان العدوان الاميركي المبيت محقاً ام لا، فواشنطن دولة عدوانية ستفرض بالقوة ما تستطيع فرضه سواء قبل العالم او رفض. السؤال الاجدر بالتأمل هو ما اذا كان تطبيق المبادرة الاماراتية سينفع او سيضر الشعب العراقي اكثر من الوضع الحالي او اكثر مما سيكون الوضع بعد العدوان؟ بمعنى اخر ما هو الافضل: بقاء الوضع على حاله في العراق، أم انتظار نتائج الهجوم الاميركي، أم تبني وتنفيذ المبادرة الاماراتية؟ كان من الافضل طبعاً لو ناقشت الجامعة العربية وتبنت مبادئ المبادرة وما شابهها قبل اكثر من عام، عندما لم تكن القوات الاميركية على حدود العراق، اذ طرحت عناصر المبادرة علناً من البعض باشكال متنوعة. ففي السابع من فبراير العام الماضي، كتبت هنا عن اهمية تجنب الهجوم الاميركي المتوقع بوسائل تخدم العراقيين اصلاً، مثل استقالة الرئيس وتسليم الحكم الى لجنة تمهد للانتخابات باشراف دولي بدون مشاركة من الرئيس. «... او اجتياح عربي للعراق باشراف جامعة الدول العربية حفاظاً على وحدة واستقلال البلاد وأرواح وأرزاق العباد». وفي مطلع اغسطس المنصرم كتبت هنا: «يمكن للجامعة العربية ايضاً ان تشكل قوة عسكرية عربية من ربع مليون جندي يدخلون العراق لحمايته ولادارته بدون النظام الحالي، ولا يغادرونه الا بعد استتباب الامن وانتخاب نظام جديد». كما طرحت فكرة ان يتوحد العراق مع احد جيرانه ويتنازل الرئيس صدام لصالح قيادة البلد الاخر. سر نجاح هذه الدولة الوحدوية سيكون في التأسيس لحريات الافراد والاقليات، وتطبيق الديمقراطية والتسامح، والاستفادة من النفط والقوى والخبرات البشرية، لكن امانة الجامعة العربية لم تناقش ما طرح من الكثيرين، ولم تطرح أي حلول عربية فعلية طوال سنوات الازمة، وها هي الان تكنس مبادرة الامارات تحت السجادة بدون ان تقترح أي بديل لها، وكأن الوحدة العربية وحماية شعب وبلد عربي من العدوان ليستا من مهامها. بعد ان رفضت الجامعة والقمة التدخل العربي الدولي لادارة العراق والحفاظ على ارضه وشعبه، فما هي البدائل الباقية في الايام القادمة؟ مطالبة الامم المتحدة بالاشراف لوحدها مثلا على العراق لم تعد خياراً لرفضه من الرئيس، ولرفض العرب حتى طرح الاشتراك في حل كهذا يشترط تنحية الرئيس صدام. مشاركة عربية مسلحة لحماية العراق ونظامه ضد الهجوم الاميركي هي فكرة لا تتطابق مع ما تم رفضه من مشاركة ادارية اقل من الحرب. الحل المتمثل في بيان القمة هو مطالبة صدام بالانصياع التام لكل طلبات المفتشين ليحتفظ بالكرسي، اي وضع كل المسؤولية على الرئيس، وفي احسن الاحوال يناشده الانبطاح النهائي وكأن هذا اشرف مما جاء في المبادرة الاماراتية. المثير الان ان الادارة الاميركية قالت، قبل ثلاثة ايام، ان صدام لن يبقى في الحكم اذا وقعت الحرب، ولكن يمكنه البقاء اذا جرد العراق من الاسلحة قبل قيام الحرب! لماذا مبادرة الامارات هي الافضل الان؟ لان العرب باختصار منقسمون لاتجاهين خيرهما شر، الاول تمنيات بازاحة صدام ونظامه بالقوة الاميركية فيرتاحون منه، والاتجاه الثاني يركض خلف تمنيات ان يبهدل صدام القوات الاميركية فيرتاحون من مطالبها بالتغيير. لكن في الحالتين سيدفع الشعب العراقي الثمن الباهظ.