الوحدة الأولى

TT

الكثيرون يقولون إن لا خوف على العراق من التقسيم. فهو ليس يوغوسلافيا التي كان لكل جمهورية من جمهورياتها لغة وعرق وثقافة. وهو مظلة تاريخية واحدة حول الرافدين برغم تعددية المذاهب وحضور العرق الكردي الآري. وهو تجربة استقلالية ناجحة إلى حد بعيد لولا حرب الكويت التي جعلت الجنوب ينفصل نفسيا عن السلطة المركزية مع أنه وقف عمليا إلى جانبها في الحرب ضد إيران. غير أن ما تعرض له الجنوب بعد حرب الكويت من إهانة وأذى، جعله عمليا خارج العراق. وبعد الكويت أيضا أصبح الشمال، الكردي الأكثرية، خارج العراق بدوره. وهناك حدود شبه رسمية تفصل الشمال الآن عن «حدود» السلطة المركزية. أو ما يسميه العامة «حدود صدام». ومع أن الإدارة المحلية في الجنوب لم تتغير فإن الإدارة المحلية في الشمال أصبحت حكما ذاتيا يختلف في كل شيء بما في ذلك سعر صرف الدينار.

وبالإضافة إلى واقع الشمال والجنوب والقوى الرئيسية فيهما، ظهرت في العقد الماضي قوى سياسية كثيرة، متطرفة وغير متطرفة. وهذه القوى تفرض نوعا من «حكم الأمر الواقع» في مناطق كثيرة وتأخذ بيدها القانون الذي تراه أو تستنسبه. أي قانون الفوضى والاستضعاف والاضطهاد. وتتصرف السلطة المركزية وكأنها قبلت هذا الانقسام العملي، لكي لا نقول التقسيم. والذي يحول دون التقسيم الفعلي أو القانوني هو الخوف من الإرادة الدولية التي ترفض حتى الآن، أن ترى دولة كردية في كردستان. ليس من أجل وحدة العراق بل خوفا على وحدة تركيا. وقد اختار الأتراك هذه المرة البقاء خارج الحرب، ليس بسبب المساومة على ثمن أرفع، كما يقول البعض، بل خوفا من مضاعفات لن يتمكنوا من حصرها أو ضبطها. والنموذج اليوغوسلافي حي في الذاكرة. والنموذج الجزائري لا يزال مستمرا دون حسم. والديمقراطية التي سوف يحملها الأميركيون والبريطانيون بالمظلات ليست الآن أولوية لدى أحد. لا هي أولوية في الشمال ولا هي النظام السياسي الذي يريده الجنوب.

وفي أي حال لا يمكن نقل الديمقراطية بالبوارج ولا بحاملات الطائرات.

مشكلة جورج بوش في المواجهة الحالية ان شعبيته مثل شعبية غريمه. مائة في المائة! واحد ويجر العراق ـ والمنطقة ـ بالتفويض المطلق الذي «أعطيه»، وواحد يجر أميركا والعالم، من دون تفويض دولي. ويضع صفاة العرب وخلصاؤهم، مثل سعود الفيصل، ايديهم على قلوبهم خوفا على العراق من التقسيم. لكن الواقع أن العراق الآن في حاجة إلى إعادة توحيد. وفي حاجة إلى «تحريره» من عشرات آلاف الجنود الأتراك وسواهم. وإلى إنقاذه من الفوضى التي دبت في أوصاله فيما انصرفت السلطة إلى هاجس حماية الذات وتحصين مواقع البقاء والوجود. لقد ترك العراق نفسه يذهب في كل الاتجاهات. وفي غياب السلطة المركزية نمت الميول والمشاعر والمحاولات الانفصالية. وعادت تركيا تتصرف في الشمال وكأنها لم تخرج من العالم العربي عام 1918. ولن يكون من السهل الآن إعادة اللحمة الحقيقية التي جمعت بين أهل العراق في معارك الاستقلال ومراحل النهضة وأحلام الوحدة الكبرى، فإذا الهاجس هو الوحدة الأولى.