حركة السلام.. خمسون عاما على وفاة ستالين

TT

اطلقت وسائل الاعلام الغربية على المظاهرات التي اشترك فيها حوالي 30 مليونا من البشر في حوالي 600 مدينة، في 25 بلدا، من كل انحاء العالم: «حركة السلام». وقد اجتمعت يوم امس مجموعة من دعاة الحركة ليبحثوا السبل الكفيلة برعاية الطفلة الوليدة لتبلغ سن الرشد. ولعله من المصادفات التي لم ينتبه اليها المنظمون ان يوم 5 مارس يصادف الذكرى الخمسين لوفاة جوزيف ستالين. وقد كان الدكتاتور السوفياتي الأب الحقيقي «لحركة السلام»، التي ظلت طوال عدة عقود واحدة من أدوات السياسة العالمية للكرملين.

دشنت «حركة السلام» الستالينية عام 1946، في وقت لم يكن هو قد تمكن من انتاج سلاحه النووي ولم يكن يملك بالتالي ما يحميه من هجوم نووي اميركي. وكان ستالين محتاجا للوقت ليوطد نفوذه ويشدد قبضته على امبراطوريته الجديدة باوروبا الشرقية والوسطى، في نفس الوقت الذي كان يبتلع قطعا كبيرة من الاراضي الايرانية.

رسم بابلو بيكاسو، «رفيق الطريق» للشيوعيين الفرنسيين، حمامة السلام التي صارت رمزا للحركة. كما نظم الشاعر الفرنسي بول ايلوار، رفيق الطريق الآخر، مجموعة من القصائد للحركة التي كان ستالين ملهمها وقائدها. كما ان الشاعر الايراني المجدد احمد شملو، نظم قصيدة طويلة يمدح فيها القائد العسكري الكوري الشمالي، شين جو، وكان من اكثر قادة كوريا الشمالية دموية في حملاته المروعة في الجنوب الكوري عام .1950

كان يطلب من دعاة السلام وقتها ارتداء القمصان البيضاء، واطلاق الحمائم البيضاء خلال مظاهراتهم، والتلويح بقبضاتهم المشدودة ضد «الامبرياليين والانتقاميين».

وسرعان ما اتضح ان «حركة السلام» لم تكن ضد كل انواع الحروب، بل كانت تعارض فقط تلك الحروب التي تهدد الاتحاد السوفياتي وحلفاءه والدول الدائرة في فلكه. فعلى سبيل المثال لم يعترض دعاة السلام على قرار ستالين بنفي كل الامة الشيشانية الى سيبيريا والاحتفاظ بها هناك. ولم يتظاهر دعاة السلام ليطالبوا ستالين بسحب قواته من اذربيجان وكردستان الايرانيتين. وعندما ضم ستالين 15% من اراضي فنلندا، لم يحتج احد من معسكر الداعين الى السلام. كما لم يتظاهروا عندما ضم الاتحاد السوفياتي ثلاثا من جمهوريات البلطيق، ولم تصدر عنهم نأمة عندما هدرت الدبابات الروسية في شوارع وارسو وبودابست، وبعد عقد من ذلك في براغ، لسحق انتفاضات شعبية ضد القهر الشيوعي.

ولكن عندما قاد الاميركيون تحالفا، تحت راية الامم المتحدة وبتفويض منها، لمنع شيوعيي كوريا الشمالية من احتلال الجنوب، انطلقت مسيرات دعاة السلام في كل مكان. وكان شغل حركة السلام الشاغل هو مهاجمة الديمقراطيات الاوروبية واضعاف ارادتها في الدفاع عن حرياتها في وجه الخطر السوفياتي. وخلال كل تلك السنوات لم تسر مظاهرة واحدة ضد أي من الانظمة التابعة للاتحاد السوفياتي التي شنت عددا من الحروب، بعضها كان ضد شعوبها بالذات. ولم تكن الحروب التي شنها النظام الشيوعي الصيني ضد شعوب منشوريا والتيبت وتركستان الشرقية ومنغوليا الداخلية، سببا كافيا لحمل دعاة السلام على التحرك، رغم ان هذه الشعوب تعرضت الى ابشع حملات «التطهير العرقي»، بل حتى عندما شنت الصين هجومها على الهند وضمت منها اراضي بحجم انجلترا، فان حركة السلام لم تحرك ساكنا.

ففي الستينات حولت حركة السلام نفسها الى حملة لنزع السلاح من طرف واحد. وتعني كلمة من طرف واحد هنا هو تخلص القوى الغربية من ترسانتها النووية، وبالتالي احتكار الاتحاد السوفياتي للاسلحة النووية. (بدأ السوفيات في بناء ترسانتهم النووية منذ عام 1951).

وقضت حركة السلام فترة كبيرة في الستينات تعارض التدخل الاميركي في فيتنام.

وقدمت مرحلة الثمانينات رخصة جديدة للحركة وهي تركز على معارضة وضع صواريخ بيرشينغ في المانيا ودول منطقة البنلوكس.

وكانت صواريخ بيرشينغ تمثل ردا على صواريخ اس اس ـ 20، التي نشرت في اوروبا الشرقية وتستهدف كل العواصم الاوروبية الغربية، ولكن حركة السلام لم تطالب ابدا بسحب صواريخ بيرشينغ واس اس - 20. كل ما ارادوه هو سحب الصواريخ الاميركية.

وتعرضت اقتراحات الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغان للاتحاد السوفياتي بسحب كل من صواريخ اس اس ـ 20 وبيرشينغ للانتقادات والسخرية من حركة السلام باعتبارها «خدعة امبريالية اميركية». ووصف فرانسوا ميتران الرئيس الاشتراكي لفرنسا انذاك الامر على الصورة التالية «الصواريخ في الشرق ولكن حركة السلام في الغرب».

ولم تسر حركة السلام، ولا حتى يوشكا فيشر وزير خارجية المانيا في مظاهرات للمطالبة بتدمير حائط برلين والسماح للامة الالمانية باستعادة وحدتها.

كل ذلك اصبح الان في حكم التاريخ. فقد اختفت «امبراطورية الشر» الى الابد، ولكن المشاعر العميقة ضد الغرب التي روجت لها طوال العقود الماضية لا تزال باقية.

ومثل هذه المشاعر المضادة للغرب، وبصفة خاصة المضادة للولايات المتحدة هي التي تقدم الغراء الذي يربط حركة السلام الجديدة.

ففي الاسبوع الماضي سألت صحيفة «الغارديان» البريطانية مجموعة من انصار السلام عن اسباب معارضتهم لاستخدام القوة لتحرير العراق؟

وكان السبب الرئيسي لتأييدهم لصدام حسين هو ان الولايات المتحدة تكرهه. واقترح البعض على الولايات المتحدة غزو مصر والسعودية، وهما من النظم الصديقة، بدلا من العراق تحت حكم صدام. وعبر معظمهم عن تأييدهم للمبادرة الفرنسية، التي اذا طبقت ستحول العراق الى ما يشبه المستعمرة تحتلها قوات اجنبية لعقود.

(وصف وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل الخطة الفرنسية بأنها تهدف الى خنق الشعب العراقي بطريقة بطيئة حتى الموت).

وتجدر الاشارة الى انه عندما غزت القوات التنزانية اوغندا واقصت عيدي امين لم يشارك احد في مظاهرات لان الولايات المتحدة لم تكن طرفا.

وعندما غزت القوات الفرنسية جمهورية افريقيا الوسطى وغيرت النظام، لم يشارك احد في مسيرات. السبب؟ لقد عرفته: لم تشارك الولايات المتحدة في الامر.

ان حركة السلام تستحق اسمها فقط اذا عارضت كل الحروب، بما في ذلك تلك التي يشنها الطغاة ضد شعوبهم، وليست تلك التي تشارك فيها الولايات المتحدة فقط.

هل سارت حركة السلام في مسيرات عندما غزا صدام حسين ايران؟ لا. هل سارت في مسيرات عندما غزا صدام الكويت؟ مرة اخرى لا (ساروا في مسيرات في ما بعد تحت شعار «لا دماء مقابل النفط» عندما بدأت قوات التحالف الاميركية في تحرير الكويت). هل ساروا عندما قتل صدام الاكراد بالغازات؟ لا ابدا.

لقد مات ستالين قبل خمسين سنة في مثل هذا اليوم بالضبط، ولكن لو بقي على قيد الحياة حتى اليوم لفوجئ: فحركة السلام التي اسسها لا تزال قائمة في الديمقراطيات الغربية كما كانت عليه قبل خمسين سنة.

فهذه الايام لم تعد حمامة السلام التي صممها بيكاسو تظهر، ولم يعد احد يرتدي القميص الابيض الذي اوصى به «ابو الشعب» كما يطلق على ستالين. وتبدو قصيدة ايلوار ساذجة. ولكن الروح التي الهمت تلك المسيرات لا تزال كما هي معادية للديمقراطية ومعادية للغرب ومعادية لاميركا ومنبهرة بـ «رجال اقوياء» مثل ستالين او صدام حسين، اللذين يعتقد انهما يملكان القوة السحرية بتطويع التاريخ لارادتيهما.