حتى لا يتكرر المشهد العراقي

TT

ما حدث في العراق، يشكل بمأساته الفاجعة مرحلة سوداء في التاريخ العراقي والعربي والإنساني معاً، لكن هل صحيح أن تقود المصلحة الاقتصادية والسياسية للغرب، غضّ الطرف عما جرى لشعب عريق تم لاحقاً اكتشاف مقابر جماعية كانت تحفر له وسط صمت إقليمي ودولي مريبين؟!، وإذا ما سلّمنا بأن الغرب قد تقوده رائحة النفط نحو الصمت، فإن عوامل قومية ودينية وأخلاقية، كان من المفترض أن تقود المجتمع العربي نحو موقف أقل ما يقال عنه الاحتجاج وكشف الحقائق. وإذا كان أمين عام الجامعة العربية، قد أعلن أنه لم يكن يدري ما كان يحدث في العراق، ولو كان قد عرف لكان الأمر مختلفاً، فإن المثقفين العرب والأكثر قدرة على قراءة الواقع والأكثر حرية على التعبير، كانوا مطالبين بالموقف المتميز والمعبر عن ضمير المثقف الذي يرى ما لا يراه السياسي، لكن الذي حدث كان أكثر من موقف أمين الجامعة العربية، الذي أعلن متأخراً وهو ليس الوحيد من السياسيين. فمنهم من تحدث عن ستار حديدي اختفى العراق وراءه وحجب رؤية الحقائق!، (ليصدّق من يشاء)، إذ منح المثقف العربي الشرعية للجريمة من خلال المشاركة الحنونة والدائمة لمهرجانات الثقافة والفنون التي كان يرسم النظام بهما الصورة الزائفة والواضحة في زيفها حتى النخاع.

لكن المسؤولية الكبرى تقع في الدرجة الاولى على الأحزاب العراقية، فأهل مكة أدرى بشعابها، وقد نشطت الأحزاب العراقية، الماركسية اليسارية والقومية التقدمية العربية والكردية، وعملت وشاركت في السلطة بهذا الشكل أو ذاك، وكانت مطاردة أو طاردت هي خصومها ورفاقها خدمة للنظام. ولم تكن هذه الأحزاب تصغي إلى نبض الشارع الذي كان يشعر حقيقة المأساة التي تحيط به، بل وتدمره إنسانياً قبل الدمار الاقتصادي، وكانت مشاهد الاعتقال والتهجير والتصفية الجسدية والإعدامات في الساحات العامة تتواصل، وأكياس المقتولين ترسل إلى بيوتهم وتسلم للأهل، فيما مشهد الطاغية يتبختر في صالة مسرح الخلد، والحزبيون اليساريون يقفون مصفقين متفائلين بكاسترو جديد يحتفل معهم بذكرى تأسيس حزب حليف. مشهدان على النقيض من بعضهما تماما. فأين يكمن الخلل؟ هل خضعت تلك الأحزاب لإشارات خارجية، أم هي القراءة الساذجة لمشهد الديكتاتورية بسماتها المتكررة وأهدافها المشبوهة؟

اليوم يتكرر المشهد ثانية، والصورة ليست بعيدة عن بدايات الحكم الديكتاتوري، فحزب البعث الذي جاء في 17 يوليو (تموز) 1968، أغلق سجن (نقرة السلمان) المخيف، لكنه أصبح بستاناً في ما بعد مقارنة ببيوت الأشباح وقصر النهاية. فإذا لم يجر التوقف أمام التجربة، ودراسة ما مضى واستحضار الشجاعة في نقد الذات والتعامل مع المادة بحركتها التاريخية، وليس رمي الأخطاء على من سقط، وهو أمر هيّن وسهل ولم يعد يقتضي الكثير من الشجاعة، بل هو بات تجارة مربحة للبعض توازي تجارة مديح الديكتاتور في الماضي القريب، إذا لم يجر التوقف بوعي أمام التجربة الخطيرة التي عاشتها تلك الأحزاب العراقية، فإن الكارثة ستتكرر، وإذا جاءت في الماضي على شكل مأساة، فإنها ستأتي الآن على شكل مهزلة، كما يقول كارل ماركس.

من هنا يجب رصد الخلل وتسميته مبكراً، وهو بقوته والاستعداد لدفع الثمن حتى لا يتكرر. ولكي نجني فوائد الخسارات الحالية والماضية، علينا أن نستلهم من التاريخ الحديث أمثلة حية. فألمانيا مثلا فعلت ذلك مرتين، لاستيعاب التجربة النازية مرة، واستيعاب التجربة الاشتراكية الديكتاتورية مرة ثانية، فأسست لذلك أرشيفاً لتوثيق التاريخ توخياً لفهمه ورصدت جهوداً، وعكف الباحثون على دراسة ما مضى وتحليل النتاج الفكري الذي أفرزته تلك المرحلة درساً لجيل سيأتي.. جيل لم يعش التجربة، لكنه سيجد أجوبة عن أسئلة كثيرة. وأيضاً حتى لا نترك المنتصر يكتب التاريخ وحده من منظوره الفوقي غير المحايد بالضرورة. إن مهمة الأحزاب والشخصيات وعلماء الاجتماع والمفكرين والمثقفين طرح الأسئلة الجريئة والوقوف أمام المرآة حتى وإن قادت تلك العملية إلى سقوط تماثيل المرمر والفولاذ، وإلا سيكون شعار «مات الملك عاش الملك» هو بداية لمأساة جديدة.

لقد حان الأوان لكي تراجع هذه الأحزاب العراقية نفسها وتأريخها، لأن ما حصل لم يكن طارئاً ولا يجوز اختزاله إلى عامل واحد. فمن أجل إنقاذ المستقبل المهدد، نحن مطالبون بوقفة جدية أمام تأريخنا العراقي بشكل عام وحركاته الاجتماعية والسياسية بشكل جريء يحاول الإجابة عن السؤال المحير: لماذا حدث ما حدث وسط مشاركة عراقية حزبية مسؤولة؟!.

لقد وقف حزب البعث القومي بأفكاره الشوفينية موقف المساند لشخصية الديكتاتور وساندته بذلك أحزاب ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية والأحزاب القومية العربية والكردية، فأصبح الديكتاتور بطلا، إذ ليس الدافع المادي والخوف هما وحدهما المبرر والمفسر، إنما استجلاء الوهم وعصب العيون عن واقع مر وتصديق كذبة شائعة مألوفة. فكل الأحزاب العربية والكردية العراقية وفي المقدمة منها حزب البعث، كانت بعيدة عن هموم المواطن العراقي وأسهمت في تشويه الوعي، فأصبح الولاء للحزب، أي حزب، وللجبهة في فترة معينة، وللديكتاتور بعد ذلك هو معيار المواطنة. وما جرى لم يكن مصادفة، بل تتويجاً لتأريخ اضطهاد متبادل جلس صدام حسين على قمته وأسهم الجميع في بنائه، ليس بالغضب دائما، إنما أحياناً طوعاً، والجميع مشترك بتحمل المسؤولية من أحزاب واتحادات ومنظمات وشخصيات، وإن بنسب متفاوتة.

لقد حان الوقت كي تقف الأحزاب العراقية كلها ومن دون استثناء أمام تجاربها وتأريخها وأخطائها، وهي كثيرة، وأن تعتزل الحياة السياسية إذا لم تر في نفسها القدرة والمبرر على الاستمرار. إن صدام حسين لم يأت من العدم، فهو صنيع ليس أمريكا والغرب وحسب، لكنه ايضا صنيع المعسكر الاشتراكي المقبور وحلفائه. اليوم وبعد أن أطيح بتمثال الطاغية، مطلوب من الأحزاب العراقية أن تعيد النظر في برامجها وسياستها والإنصات جيداً لصوت الشعب العراقي، وإلا فإن ذات المشهد المثير في شاشات التلفزيون للمواطن العراقي الذي كان يصرخ ويضرب صورة الطاغية سيتكرر، لكن هذا من دون الانتظار لزمن طويل. العراق بحاجة اليوم إلى الشجاعة الأدبية الصارمة الموضوعية والبناءة والقادرة على الصفح، لكن بعد المعرفة وتضميد الجراح وبعد استيعاب الماضي، وهي عملية لم تبدأ بعد وهي صعبة وشائكة، لكنها الضمان الوحيد حتى لا ينهض الديكتاتور في نفوس شيوخ معارضات كثيرة مرشح معظمها لأن يتحول من ضحية إلى جلاد.

* كاتبة عراقية