لماذا نحن ضد البعث العراقي؟

TT

بعيدا عن المقابر الجماعية والمجازر البشعة وعمليات القتل الوحشية وحملات القمع الشرسة واغتصاب العرض والحقوق والتصفيات الجسدية للخصوم والمعارضين من القوى والاحزاب الأخرى وانتهاك الحرمات ومصادرة الحريات الخاصة والعامة في البلاد التي مارسها البعثيون في العراق خلال نصف قرن من الزمن، فقد استباح النظام البعثي الاعراف الدولية وانتهك قيم الجوار والصداقة والاخوة عندما غزت قواته دولتين جارتين ومسلمتين خدمة لمصالح الدول الكبرى. فهل اكتفى البعثيون بهذه الانجازات القومية «العظيمة» في القادسية وام المعارك والحواسم الاخيرة؟ بالتأكيد «لا».

صدام حسين بمفرده لا يستطيع ارتكاب كل هذه الآثام بلا عون من بعثيين محترفين في الاجرام، باستطاعتي اعداد قائمة طويلة باسمائهم، وتحتفظ دوائر الشرطة والقضاء العراقي بملفاتهم الى ان وصلت القوات الاميركية الى بغداد ويقال انها قامت باتلافها بالكامل خشية ان يتعرضوا لمساءلة العدالة في يوم ما. وتعود تواريخ بعض تلك الجرائم التي ارتكبها البعثيون في العراق الى نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي.

نعود للفكرة الاساسية لموضوعنا هذا وهي ان «حزب» البعث شأنه كبقية الاحزاب العراقية لا يجوز حرمانه من حق العمل السياسي وان قيامه (اي البعث) بحرمان الآخرين من ذات الحق عندما كان متسلطا بالقوة والبطش، لا يبرر مثل هذا الاجراء «الظالم». واختلف كليا مع كل من يعتبر هذه المجموعة من المجرمين «حزبا» سياسيا له اهداف واضحة وبرنامج معلن وممارسات لها صفة وطبيعة سياسية. ان تاريخ البعث في العراق عبارة عن سجل طويل بالاجرام والاعتداء على حقوق الآخرين.

تعود نشأة حزب البعث في العراق الى أواخر الاربعينات من القرن العشرين، حيث انخرط في صفوفه عدد من ابناء الطبقة الوسطى المتعلمة، وكانت غالبية هؤلاء من النخبة المثقفة وطلاب الجامعات والمدارس الثانوية من الحالمين بوحدة العرب والتحرر من السيطرة الاجنبية واسقاط الانظمة العميلة والرجعية. وبقيت هذه المجموعة الصغيرة من المثقفين محدودة النفوذ قليلة التأثير في الحياة السياسية العراقية حتى قيام ثورة تموز عام 1958، لكن هذا الحدث الكبير وما تمخض عنه من تحولات في المجتمع العراقي ساهم في دفع افراد هذه المجموعة الى سلوك نهج جديد واحداث تغييرات جذرية في اساليبهم لمواجهة التيار الديمقراطي والليبرالي في البلاد الذي كان على رأسه المرحوم كامل الجادرجي وحزبه الوطني الديمقراطي الذي دعا الى انهاء سيطرة العسكر على السلطة والعودة الى الحياة الدستورية، في وقت سيطر الشيوعيون والقوميون على الشارع وكانوا يرفعون شعارات «ثورية» متعارضة قادت البلاد الى الفوضى والى صراعات دامية. استغل البعثيون هذا الوضع باقامة تحالفات مع بعض العناصر القومية وأخرى من القوى المتضررة من الثورة. ونتيجة ضعفهم وقلة عددهم فقد اندفعوا الى تجنيد المجرمين الذين يطلق عليهم العراقيون اصطلاح «اصحاب السوابق» والشقاوات واولاد الشوارع في صفوف «حزب» البعث الذي تحول في السنوات الاولى من عقد الستينات الى قوة يحسب لها حساب في مواجهة السلطة من جهة والقوى السياسية الأخرى من جهة ثانية. ومن بين هؤلاء اسماء معروفة وذاع صيتها في العالم في ما بعد امثال صدام حسين، عزة الدوري، طه الجزراوي، عبد الكريم الشيخلي، ناظم كزار، صباح مرزا وعشرات غيرهم.

ومارس البعثيون (وهم فئة معارضة) خلال تلك السنوات اعمال ارهاب متنوعة ضد العراقيين استهدفت بالدرجة الاولى الضعفاء والفقراء منهم خاصة العراقيين من اصول فارسية وهندية وافغانية ثم توسعت لتشمل الاكراد، خاصة الاكراد الفيلية الذين يتمركزون في بغداد ثم التركمان والصابئة وابناء الطوائف المسيحية. فعمدوا الى حرق المتاجر وارغام البعض على الهجرة من مناطق سكنهم وحرمان العديد منهم من العمل وقد رافق ذلك اعتداءات بالضرب أو الاهانة تطورت في ما بعد الى عمليات قتل واغتصاب للنساء وهدم للمنازل. وكان كل ذلك يجري امام انظار شرطة عبد الكريم قاسم واجهزة الدولة التي شلتها التهديدات البعثية للمسؤولين وارغمتها على اتخاذ موقف المتفرج. وساد العراق حالة من الرعب نتيجة هذه الاعمال الارهابية واصبح «حزب» البعث «قوة» مخيفة في البلاد اثارت اهتمام اجهزة المخابرات الغربية، خاصة الاميركية والبريطانية به وتم تزويده بما يحتاج من الوسائل والاموال لتنفيذ اضرابات ناجحة في الجامعات والمدارس الثانوية ثم اضرابات العمال التي اخذت تؤثر على حياة المواطنين مباشرة مما مهد السبيل لانقلاب شباط عام 1963.

ولكي ابتعد عن الصراعات السياسية اود عرض قصة حقيقية كنت احد شهودها في بلدتي الصغيرة القريبة من العاصمة بغداد. في تلك البلدة (المحمودية)، حيث يعرف الناس بعضهم البعض، تعيش زمرة من قطاع الطرق والمجرمين الذين اعتادوا العيش على عمليات السلب والسرقة والاعتداء على المساكين من الناس. ومن هؤلاء جند البعثيون نفرا قليلا بينهم شخص يدعى عباس الرشيد وبطريقة ما اقنعوا الحكومة بصلاحية هذا الرجل لوظيفة حارس ليلي وترقى بسرعة قياسية الى منصب رئيس الحراس بسبب شراسته وخدماته «الخاصة» لاصحاب النفوذ والجاه في المدينة. تحول الرجل بين عشية وضحاها الى «ظاهرة» وحديث الناس الذين فزعوا بمظهره «المتميز» وصلاته بالمسؤولين الكبار وكان يحمل الى جانب بندقيته عصا غليظة لضرب هذا وتأديب ذاك.

كان اول ضحايا البعث في تلك البلدة عدد من العوائل الفارسية الاصل كانت تعيش بأمان بين الاهالي المسالمين. لقد شاهدت بأم عيني ما جرى لاحدى هذه العوائل التي كانت تسكن قريبا من بيتنا وتربطنا بها صلات الجيرة. كنت حينها (طفلا) صغير السن يصعب عليه فهم دوافع الظلم المسلط على هذا النوع من البشر، لكني كنت أراه واحس بوجوده. سرقوا محلهم ودمروا محتوياته باشراف «رئيس الحراس»، وامام هذه القوة الغاشمة لم يجد افراد هذه العائلة مفرا من الهجرة الى مدينة أخرى أو ملاذ آخر في ليلة مظلمة وبقلوب مكسورة وعيون نازفة ومشاعر حزينة تخفي حسرات الألم الذي يعاني منه كل انسان مظلوم لا يقوى على الدفاع عن حقه أو حماية ماله أو صون عرضه. هذا المشهد المؤلم تكرر في اكثر من مدينة من العراق، خاصة في بغداد والحلة وكربلاء والنجف، حيث تختلط الاجناس والأديان والقوميات وتزدهر المدنية ويضعف النفوذ العشائري والتمييز العنصري. وهذه العائلة لم تكن الوحيدة التي ارغمها ارهاب البعث على الهجرة. عوائل أخرى هجرت تحت التهديد البعثي قبل ان يصل البعثيون الى السلطة في شباط عام 1963، حيث تفاقم التهجير والمجازر الدموية والتنكيل بكل العراقيين من العرب وغير العرب الى الحد الذي دفع بعناصر قومية حليفة للبعث الى تدبير انقلاب عسكري آخر في العام نفسه، هذه المرة للتخلص من البعثيين، اذ تجاوزت جرائمهم حدود المعقول واثارت غضب واستنكار العالم كله.

ما حدث خلال حكم البعث الاول من صراعات دموية بعضها ذات طبيعة سياسية بالتأكيد، ذهب ضحيتها عراقيون لا علاقة لهم بالعمل السياسي بينهم علماء كبار امثال الدكتور عبد الجبار عبد الله، رئيس جامعة بغداد في عهد قاسم. لقد اقترف البعثيون جرائم لا يمكن حصرها بنوع أو فئة أو اتجاه، اذ نجحوا في فترة زمنية قياسية في تحويل العراق كله الى ساحة مطاردات ليلية تجوب مدنه مجموعات الحرس القومي مدججة برشاشات الـ «بور سعيد» وهي تلاحق الشيوعيين وعملاء الاستعمار والرجعيين في كل شارع وزقاق. واصبح خروج المواطنين في الليل «مجازفة» محفوفة بكل انواع المخاطر. أما وسائل الاعلام العراقية من تلفزيون واذاعة وصحف فكانت في حالة حرب حقيقية وهي تستنجد بالمواطنين لحماية «الثورة» والدفاع عن «مقدسات» الامة والاستعداد ليوم «التحرير» الذي كان قاب قوسين أو ادنى.

بعد عام 1968، دخل العراق مرحلة جديدة. وحقبة زمنية لا يمكن مقارنتها بنازية هتلر ولا فاشية موسوليني ولا ارهاب ستالين، حيث ابدعوا في الاستفادة من اساليب ارهابهم. واستطاع البعث في بغداد بناء ماكنة اعلامية لا نظير لها في بث الاكاذيب وتضليل الرأي العام وخداع الناس بالاستفادة من كتاب واعلاميين عراقيين بارعين في تحويل الكذب الى حقيقة والتلاعب بعقول وعواطف السذج والبسطاء من الناس. وتمكنوا من تلفيق التهم ضد من يعارضهم وتخوين من يخالفهم وارهاب من يقف في طريقهم. واتاحت الموارد المالية الكبيرة من عوائد النفط لنظام البعث تجنيد اقلام عربية وأخرى اجنبية في تحقيق مشاريعهم التسلطية وتنفيذ خططهم الاجرامية.

وادخل البعث اشياء غريبة في شروط الانتماء له أو في الصعود في سلم الترقيات «الحزبية»، اذ يرغم البعثي المرشح لعضوية «الحزب» ان يكون قد مارس فعلا «القتل» بشهادة مكتوبة قبل ان ينال «شرف» عضوية الحزب. وغير هذا كثير من ابداعات البعثيين التي يصعب حصرها على الاطلاق ومنها، اجراءات الاعدام لمن يخفي اي شيء عن «الحزب»، سواء عن ماضي العضو أو حاضره.

ولم تتوقف هذه الجرائم عند حدود العراق، بل وسع البعث دائرة الاجرام والقتل لتشمل شخصيات عربية. فقام البعث، الذي طالما تبجح بشعار «ان يد الثورة طويلة» تصل الى كل مكان، بتصفية عناصر فلسطينية معروفة، وازهق ارواحاً بريئة في اكثر من عاصمة عربية واجنبية خدمة لمصالح الامة العربية التي هي «امانة» في اعناق البعثيين، كما كان يزعم. وما ارتكبته قوات صدام في ايران والكويت من جرائم، لست بحاجة الى ذكرها.

كل ما ذكرت اعلاه، كما اعتقد، هو مجرد جرائم عادية خاضعة للمساءلة القانونية ومحاسبة القضاء. والجماعة المسؤولة عن ارتكاب مثل هذه الجرائم لا تنتمي بأي حال من الاحوال الى عالم السياسة والافكار، ذلك لأن السياسة كنشاط بشري لا بد لها من قيود تميزها عن غيرها من النشاطات البشرية كالنشاط التجاري أو الرياضي. ولا بد ان تقوم على منظومة قيمية اخلاقية كانت أم انسانية. وبدون هذه الشروط تتحول أو يتحول العمل السياسي الى «اجرام» وهذا ما يقوم به رجال العصابات الصغيرة منها والكبيرة. فهؤلاء يقومون بتدريب انفسهم على اكتساب مهارات وتنظيم شبكات فعالة وتجنيد عمال وانصار لاداء المهمات وتنفيذ الخطط من اعتداء الى ارهاب الى سرقة الى قتل افراد ثم التصفيات فالمقابر الجماعية وتهديد الآخرين وابتزاز المعارضين. وما فعل البعث في العراق بالضبط هذا النوع من «الانجازات» غير المشرفة لبني البشر ولكل من يحترم حق الانسان، اي انسان، في الحياة دون خوف أو تهديد.

واضح انني تجنبت افكار البعث ورسالته ومشروعه السياسي لـ «نهضة» الأمة، ذلك ان ما نراه اليوم من احتلال، لدولة عربية حكمها البعثيون (35) عاما يكفي للكشف عن حقيقة شعاراته في التحرير والعودة واقامة المجتمع العربي الموحد من المحيط الى الخليج.

* محرر جريدة «العراق الحر»