إنه زمن الحيرة الكبرى!

TT

محتارون، من ضفاف الأطلسي... إلى شواطئ المتوسط. كنا ـ إلى بضع سنين ـ نقول: شعب عربي واحد، من المحيط الى الخليج. الآن: شعوب لا يجمعها إلا حيرة تعصف بها، من الماء إلى الماء. الكل محتار. لنبدأ بقضيتنا «المركزية الأولى». ها هم الفلسطينيون محتارون. هل يواصلون مسيرة «لا، لا، لا» حتى إذا لم تقدهم إلى أي طريق؟ أم يمشون في سكة «نعم، نعم، نعم» أيا كان الثمن المعروض؟ لا هذا ولا ذاك، لسنا مضطرين، ثمة من يقول، بل ندع الزمن يأخذ مجراه الطبيعي، انه (الزمن) في نهاية المطاف في صالحنا وليس في صالح اعدائنا.

هذا حال قوم محتارين، لكن ـ بالطبع ـ اسمع الآن من يصرخ: هراء، الفلسطينيون على قلب واحد أبدا، وما كانوا ولن يكونوا أبدا في حيرة. الواقع ان أصحاب هذا الكلام لا يقولون كل الحكاية. انهم يرددون ما يحلو لهم منها. يتحدثون لأنفسهم. يقولون ما يحبون سماعه، وما عدا ذلك فهو كلام فارغ، غير مهم اطلاقا! لا بأس، أعان الله الفلسطينيين على حيرتهم، وشد من أزرهم على أرييل شارون وجداره وأركان حربه. لننتقل إلى «المركزية الثانية». كنا ـ إلى بضع سنين ـ اصحاب «قضية مركزية» واحدة، صرنا أرباب اثنتين! أخير هو وبركة؟ أم شر مستطير؟ هذه حيرة أخرى.. فمن قائل: إنما المصائب تشد العزائم، وإن كثرتها تصنع الرجال، بل إن الرجال الرجال هم من يتحدون المحن بـ«هل من مزيد»، إلى قائل: يا ويلتاه، من اقتطاع الإسكندرون (أتذكرون؟) إلى اغتصاب فلسطين، إلى ضياع العراق، فإلى أين المصير؟! باختصار، الحيرة في العراق ليست بأقل منها في فلسطين. العراقيون ايضا أقوام، منهم من يريد «إنهاء فوريا» للاحتلال، ومنهم من يصرخ منذرا من «عواقب وخيمة» إذا ما رحل الاميركيون والبريطانيون فجر غد، منهم من يصّر على عراق واحد مهما كان الثمن، ومنهم من لا يمانع في التقسيم إذا كان ثمنا للتعددية والديموقراطية. أعان الله العراقيين على حيرتهم، وشد من أزرهم على من يثير الفتن بينهم! بيد ان حيرة بقية العرب، من مشرقهم غير السعيد، الى مغربهم العاجز عن عقد قمة منذ تسع سنين، مرورا بخليج تحيّره عشرات الاسئله منذ 11 سبتمبر 2001، ليست بأقل من حيرة العراقيين والفلسطينيين، فهل نعجب ـ إذن ـ إذ نحتار حتى في وصف زماننا؟ لا شك انكم سمعتم، أو قرأتم شيئا من هذا: انه زمن الضعف والتراجع، الانحدار الى الهاوية، بل هو الانحطاط الى الدرك الأسفل! ولا شك في انكم سمعتم وقرأتم النقيض: كلا، إنه زمن الانعتاق من الدكتاتورية، انهيار الانظمة الشمولية، بل هي الولادة الجديدة! حيرة أخرى؟ بلى، وهي طبيعية جدا، لكنها أشد علينا وأدهى. طبيعية لأن المفكرين والكتّاب والإعلاميين إنما هم نتاج واقعهم وشعوبهم، إنهم لا يهبطون فجأة من كواكب اخرى. وهي الأشد علينا، لأنهم في معظمهم غير متسامحين، لا يتحمل واحدهم الآخر، إلا من رحم ربّك، وهؤلاء قلة قليلة. أليس بين الأبيض والأسود ثمة خيط؟ نعم، منطقيا، ولا، عند أغلبنا. تقرأ، أو تسمع، لأغلب الذين يرونه «زمن انحطاط» فترى الشرر يتطاير بين الكلمات حتى انك تحمد الله ان الواحد من هؤلاء يكتب ويتكلم فقط ولا يطلق الرصاص، وإلا لهلك العشرات في أقل من «زمن» كتابته أو حديثه. وتقرأ، أو تسمع لفريق «زمن التراجع والانحدار» فترى بوضوح صاعق ان معظمهم يستخف بكل من يختلف معه، حتى انك ترى أحيانا درجة تقترب من الكراهية الشخصية!! فلا تملك إلا أن تعجب: لماذا؟ بيد ان فريق «زمن الانعتاق والولادة الجديدة» ليس أقل حدة حتى انك ترى درجة نفي تقترب من دعوة الاستئصال الموجودة عند الفريق الآخر!! ومرة اخرى تعجب: لماذا؟ أليس من حق كل انسان، كاتبا او غير كاتب، ان يحب بلده وأهله وناسه كما يحب ان يحبهم؟ هل يجوز ان يكون اختلاف الرؤى والاجتهادات سببا لاطلاق صفات من نوع «طابور خامس» لا يريد بنا سوى الشر؟ وهل من الضروري ان تكون كل دعوة للتروي في التعاطي مع متطلبات الإصلاح والحداثة دليلا دامغا على «عقلية متزمتة» لا تريد رؤية أي تغيير؟ أليس من طريق ثالث؟! ارحمونا، يرحمكم الله! ليست المسألة بالضرورة غراما في أسر الماضي، واصرارا على القعود في قعر البئر، ولا هي يجب ان تكون بالضرورة «عمالة» لأميركا و«طابورا خامسا» جرى تأهيله في مراكز البنتاغون أو سراديب المخابرات المركزية. هل بات من المستحيل ان يقبل عرب ان عربا آخرين يختلفون عنهم في الرؤى والاجتهادات؟ وهل بات قدر العرب هذا الاصرار على فج الرؤوس بدل تحاورها؟ هل من جواب، أم كُتبت علينا الحيرة إلى أجل غير مسمى؟! لا ادري، لكن أهرب الى شيء من العزاء في اننا نودع عاما يسلم الى عام جديد عالما يبدو كله في حيرة من أمره، وكأنما الحيرة قد ضربت مضاربها في جهات الارض الاربع ... وقاراته الخمس!

[email protected]