سنة سعودية بامتياز.. وماذا بعد ؟

TT

لقد كان عاما استثنائيا في السعودية، كأنه كبسولة سنوات تكثفت في سنة واحدة.

والحق أن نذر التغيير وبوادر التحولات كانت تلوح في الافق الغائم بغبار أبراج مانهاتن التي تهاوت تحت ضربات القاعدة المذهلة، مرفوقة بضربة أخرى لمبنى البنتاغون في واشنطن. 15 سعوديا اتضح أنهم من ضمن 19 انتحاريا نفذوا هذه الهجمة، 15 سعوديا كانوا الذريعة الأساسية لجملة من التحولات وسلسلة من التساؤلات الأمريكية التي تحولت إلى أسئلة سعودية لاحقا: من أين اتوا، وماذا تعلموا، وكيف نشأوا، وهل هناك آخرون، وما هي البيئة التي ولدتهم..؟ أنهارٌ من الأسئلة المتدفقة، فتحت كل الحصون المنيعة وأباحت الشأن السعودي للجميع، بعدما ظل فترة طويلة بعيدا عن أعين الفضوليين وآذانهم.

ما حصل بعد ذلك تفاصيل: غزو أفغانستان، معقل القاعدة وحليفتها طالبان، ثم إسقاط طالبان وضرب القاعدة ومطاردة ابن لادن ورجاله. لم تتوقف العجلة عند هذا الحد، تحولت إلى العراق، وبعد مناورات دبلوماسية طويلة، بدأ الهجوم الأمريكي/البريطاني على العراق، وتم إسقاط نظام صدام حسين ودحره. في اللحظة الراهنة الأمريكان مشغولون بترتيب الوضع في العراق، مع ممارسة ضغط هنا وهناك على بعض الدول (المارقة) حسب التوصيف الأمريكي، ويبدو أن المصير البائس لصدام قد سرّع بقطف الثمار واختصر الجهود، فقد أعلنت ليبيا تخليها التام عن برنامج الأسلحة النووية ووافقت على كل ما هو مطلوب منها دون قيود، وبدأت سوريا في التجاوب أيضا بشكل أو بآخر، ووقعت إيران اتفاقية مع المنظمة الدولية للطاقة الذرية تبيح تفتيش منشآتها في أية لحظة.

هذا فيما خص آثار ما جرى على دول الجوار، أما في السعودية، فلم يتم شيء من ذلك، أو بهذه الطريقة، إذ أن السعودية دولة غير نووية، ولا نشاط لها في هذا الاتجاه، وليست مناوئة لأمريكا على غرار الجماهيرية الليبية الاشتراكية العظمى، ولا على الغرار الإيراني الذي ادخل مفردة (الشيطان الأكبر) في القاموس السياسي الحديث، مشكلة السعودية مع أمريكا تتركز، ولا أقول تنحصر، في الموضوع الثقافي والإصلاحات الديموقراطية. فقد تكونت قناعة لدى شرائح أمريكية، خلاصتها أن نوعية الثقافة الدينية التي يتلقاها السعوديون تتسبب في إثارة الكراهية وشحن الأفراد بمضمون ديني ثوري ضد الغرب والحضارة الغربية، السعوديون نفوا ذلك، ودافعوا بأنهم طيلة خمسين عاما وهم أصدقاء لأمريكا، والمناهج التعليمية هي المناهج، والثقافة هي الثقافة، ولم يخرج منا في الماضي 15 سعوديا، وتتلخص الرؤية السعودية الرسمية حول أسباب وجود 15 سعوديا ضمن منفذي هجمات11 سبتمبر بأنهم نتاج ثقافة خاصة وسياق خارجي، يتمثل في فكر القاعدة التي هي منظمة دولية تضم جنسيات متعددة تمارس التنظير والتعبئة، وبالتالي فإن هؤلاء الخمسة عشر ينتمون إلى هذا السياق لا إلى السياق السعودي. كما تتهم هذه الرؤية دوائرَ معادية للسعودية، بسبب موقفها من القضية الفلسطينية، بأنها هي التي تنفخ في نار العداوة بين السعودية والولايات المتحدة.

والحق أن هناك جوانب أخرى للمسألة، فصحيح أن بزوغ الإرهاب ليس بسبب المناهج التعليمية، حصرا، فعلاوة على أن هناك أسبابا أخرى للإرهاب تتصل بالاقتصاد والسياسة، بالإضافة للمتغيرات الإقليمية الكبرى، العراق مثلا، وظروف متنوعة أدت بمجموعها إلى تفجر العنف الديني في السعودية، إلا أن هناك (السبب الأكبر) كما أسميه، وهو انطواء الخطاب الديني على أزمات بنيوية، تندلع من آونة لأخرى بفعل المحفزات الخارجية.

هذا الخطاب لم يحسم موقفه من الديموقراطية كآلية تستند الى أساس فكري قائم على نسبية الحقيقة، هذا الأساس و(التجذير) له، مفقود لدى جميع الخطابات الفكرية السعودية وبالأخص الخطاب الديني الذي يقف، في العمق، موقفا عدائيا منه، وما (اللغو) الكثير الذي يصدر منه عن المواطنة والديموقراطية، كما يعبر الناقد السعودي محمد العباس، الا كلمات ليست كالكلمات! ولا يراد بها إلا إحداث الأثر اللفظي والنفسي لا أكثر.

لدينا أزمة في هذا الخصوص، حتى لو لم تحصل أحداث 11 سبتمبر، ولا 12 مايو ولا تفجيرات المحيا، حتى لو لم يحصل ذلك، فقد كان يجب علينا الإسراع بإصلاح الخطاب الديني، والبدء بأولى الخطوات نحو تفكيك بنية التعصب والانغلاق. الإرهاب كشف عن الأزمة الفكرية ولم يخلقها من العدم!

حسنا لندع الماضي القريب، ولنقذف ورقة السنة الماضية في سلة الزمن، ثم لننظر: ماذا لدينا، سعوديا، في سنة 2004؟

على الأرجح فإن النشاط الإرهابي لن يتوقف، وربما تخرج قوائم أخرى بأسماء المطلوبين غير قائمة التسعة عشر، أعضاء خلية اشبيلية، ثم قائمة 26 التي أعلنت مؤخرا، فالقاعدة السعودية لا تخفي نيتها بالمواصلة، والاستمرار، عبر بياناتها ومنشوراتها الإنترنتية. يتوقع أيضا، بسبب إحكام القبضة الأمنية، واشتداد الملاحقة، أن تحصل عمليات عاجلة وغير مرتبة بشكل كاف تحت الضغط النفسي وتقلص هامش الحركة والتوقيت. هذا من الناحية العملية، ومن ناحية أخرى فإن سخونة الوضع في العراق، ونشاط القاعدة فيه، ربما ينعكس على الوضع في السعودية، ويبث شيئا من الحماسة الاقتدائية، فبلاد المسلمين واحدة وراية الجهاد لا تفرق بين احمر وابيض... بكلمة: المتوقع في أحسن الأحوال هو بقاء النشاط الإرهابي على ما هو عليه، وفي أسوئها ارتفاع معدلات العنف، ولكن ذلك لا يعكس امتدادا وديمومة قدر ما أنه يشي بالفورة الأخيرة، في حالة تشبه توهج فتيل السراج الأخير قبيل تلاشيه في العدم. نتحدث هنا عن النشاط العسكري الخالص.

أما في ما يخص الحراك الإصلاحي، فالمظنون هو حدوث خطوات معينة من قبل الدولة في الإصلاح السياسي، مثل اتخاذ قرار آخر فيما يخص الانتخابات وتوسيع رقعة المشاركة الشعبية، بقدر معين، ولكن نشاط رافعي العرائض الإصلاحية لن يتوقف، على الأقل في حالة حصول مستجدات يرى كاتبو العرائض وجوب اتخاذ موقف حيالها، وان كان البيان الأخير (نداء للقيادة والشعب) قد شهد بعض التعثر.

الأهم من ذلك، في تقديري، هو أن الساحة السعودية الفكرية بدأت تشهد حالة من الفرز والتمييز على خلفية المطالب الإصلاحية، وبدا الأمر، في سنة 2003 وكأن هناك منافسة في صياغة المستقبل، ورسم ملامح الزمن الآتي. إذن فالجدل السعودي الداخلي لن يتوقف، أو هكذا يجب أن يحدث، في ما بين المثقفين أولا، باتجاه تحديد الكلمات التي يتفقون على شكلها وربما يختلفون في مضمونها وغايتها: الديموقراطية، الحرية، المجتمع المدني... فنحن لم نشهد بعد نقاشا معمقا بين القوى المثقفة نفسها حول هذه التحديدات، ثم في ما بينهم وبين الدولة، ولو دققنا النظر في حصيلة هذا العام الذي أوشك على الانصرام، سنجد أن كتلا اجتماعية اتخذت لغة ثقافية، قد شهدت حالة من الاصطفاف والتوحد الداخلي للحضور مجتمعة في سوق الإصلاح الداخلي، سواء كانت قوى سلفية مسيسة أو قوى تعبر عن حقوق الطائفة ومطالبها، أو قوى تحبذ أن تسمي نفسها بالقوى الوطنية ويحلو لآخرين أن يسموها القوى الليبرالية. صحيح أن هناك حالة من التحالف والتعاضد في مطلب الإصلاح العام، ولكن حالة التوحد هذه سرعان ما تذوب تحت سخونة التحديد والتمييز الفكري، نشير إلى بيان النخبة الشيعية (شركاء في الوطن) الصادر في 30 ابريل وبيان القوى السلفية حول حرب العراق الذي أكد على وجوب نصرة أهل السنة من العراقيين، وبيان التقدميين ذو النكهة اليسارية (معا في خندق الشرفاء) الذي غطته صحيفة الوطن السعودية 10 نوفمبر.

وفي النهاية فان هذا العام الذي يوشك على الهطول لن يكون تقليديا في هذه الجبهات، سيكون عاما سعوديا مميزا أسوة بشقيقه الراحل... سيراقب الشقيق الذاهب ما يفعله الشقيق الوليد.. وسنراقب نحن المشهد راجين الأفضل، غير مستبعدين للسيئ، فقد أصبحت هواية التوقع في هذا الزمن السريع من أصعب الهوايات وأكثرها تخييبا... ولذلك، فإن من ضمن ما أتوقعه أن شيئا مما قلته قبل قليل لن يتحقق!

[email protected]