خواطر في وداع عام سيئ السمعة

TT

* الأربعاء 24 ديسمبر: تكتب البلدية اليَّ وإلى غيري كلما اعتزمت قطع شجرة في الحي الذي نقيم فيه. ثم تزرع عدة أشجار بدلا منها بعد تنظيم الشارع.

لكن باريس قبل عيد الميلاد مملوءة بشجيرات السرو المقطوعة! يشتريها الناس ويحملونها الى منازلهم ويزينونها، ليحتفلوا هذه الليلة بالعيد مع أطفالهم حولها.

سوف أمر بعد أسبوع بجثث ألوف الأشجار التي قذف بها الناس الى الشارع. أحسب أن قطع الأشجار تقليد وليس نصا مسيحيا مقدسا. لماذا لا يخرج الناس الى الطبيعة، ويزينون أشجارها، ويحتفلون بالعيد في حضنها؟!

أشعر بالحزن للشجرة التي تقطع، وللبيئة والغابة والخضرة التي تدمر. الاسرائيليون لا يقتلون الفلسطينيين فحسب، انهم يغتالون الأشجار أيضا. فقد قطعت القوات الاسرائيلية منذ بدء الانتفاضة نصف مليون شجرة زيتون وليمون وبرتقال في أرض السيد المسيح.

* الخميس25 ديسمبر: أعلن مقتدى الصدر «الجهاد» ضد فرنسا وشيراك. وليست هذه هي المرة الأولى التي «يجاهد» فيها الرجل. فقد أعلن الجهاد على السيستاني ثم عفا عنه. وأعلن الجهاد على باقر الحكيم ثم غفر له. وأعلن الجهاد على مجلس الحكم ثم صرف النظر عنه. وأعلن الجهاد على بوش ورامسفيلد ثم أجله.

وفرنسا عند رجال ديننا متهمة فجأة بالكفر والزندقة! فقد تمسكت بعلمانيتها وقررت منع الرموز الدينية الصارخة في مدارسها واداراتها الرسمية. والعلمانية ليست كفرا كما يروِّج علماؤنا الأجلاء. انها قيم تأصلت مع عصر التنوير لمنع الكنيسة من الهيمنة على الدولة، ولتحرير العقل ومناهج العلم والتربية والتعليم من سيطرة التحريم الكنسي والتلقين الديني.

ما زالت الكنيسة في فرنسا بخير، لكنها تشكو قلة المؤمنين! بل ما زالت للكنيسة مدارسها الحرة ومناهجها التعليمية. وحققت فرنسا وأوروبا تقدمهما العلمي المذهل بعدما أصبح عدد العلماء يفوق عدد القساوسة والرهبان الذين كانوا يتدخلون في السياسة والتربية، ويزندقون العلم والفن والثقافة.

الحجاب رمز وفرع وشكل في الدين. الإيمان في القلب والعقل هو الأصل والجوهر في الإسلام. النص المقدس لا يفصِّل الحجاب: أهو ستار فاصل، نقاب للوجه، غطاء للرأس والشعر، لباس يخفي اليدين والجسم والقدمين؟ لذلك اختلف الاجتهاد في تحديد ماهية الحجاب شكلا وعرضا وطولا.

والحجاب في فرنسا أيضا بخير. تستطيع المرأة والفتاة المسلمة أن تحجب شعرها ورأسها في الشارع والأماكن العامة بحرية تامة. لكن الآباء يتعرضون لتحريض هائل ومنظم من أئمة ورجال دين متعصبين لإجبار بناتهم على الذهاب بالحجاب الى المدرسة. ومعظمهن دون العاشرة، ولا يفقهن المغزى الجنسي لشعر أو وجه المرأة.

دفع وعاظ الجماعات والمنظمات المتعصبة والمتطرفة البنات المسلمات للتظاهر ضد شيراك وحكومته وتقاليد فرنسا في شوارع باريس ذاتها! وخرجت فتاوى وألسنة علمائنا الأجلاء الطويلة في العالمين العربي والإسلامي تندد «باضطهاد» الإسلام في فرنسا! ولم يعتقل شيراك وساركوزي متظاهرة واحدة أو واعظا واحدا.

ننسى أن علينا احترام قيم وتقاليد المجتمعات التي نقيم في ضيافتها وحضنها. لم أكن مرتاحا لنجاح الوزير ساركوزي في إقامة مرجعية دينية لعرب فرنسا ومسلميها. كنت أفضل تشكيل مرجعيات سياسية واجتماعية وثقافية تعمل من أجل دمجهم في المجتمع الأوروبي، ليستفيدوا من الضمان الاجتماعي والمساواة في حق العمل، وليحققوا نفوذا سياسيا من انخراطهم في مؤسسات العمل الحزبي المشروعة، تماما كما يفعل اليهود. كان ذلك أفضل من تركهم تحت هيمنة وعاظ ودعاة وأئمة معزولين عن العصر، في «غيتوهات» البؤس واليأس والفقر والبطالة في ضواحي المدن.

أقول للصدر وللأئمة التكفيريين إن شيراك ليس معاديا للإسلام. وقف شيراك وشرويدر في قمة الاتحاد الأوروبي معارضين إلحاح البابا واسبانيا وبولندا على النص في مشروع الدستور الأوروبي صراحة على «القيم المسيحية» كأحد روافد الوحدة والحضارة في أوروبا.

لنتعلم احترام الآخرين. الإسلام ليس بحاجة لاستفزاز الذين يستضيفونه أو حيث يكون المسلمون أقلية. وأخشى أن يؤدي الاستفزاز للأديان الأخرى وللقيم وللتقاليد إلى ردود فعل غاضبة ومروعة قد تصل في المستقبل إلى مجازر ومذابح لملايين العرب والمسلمين الذين يمارسون الآن، على الأقل، حريتهم السياسية والدينية والاجتماعية في أوروبا ديمقراطية وعلمانية.

* الجمعة 26 ديسمبر: أدهشني جان عبيد وهو يوجه اللكمات تحت الحزام وفوق الحزام الى سيبويه. ولعل هول فاجعة الطائرة المحملة باللبنانيين أنسى وزير خارجية لبنان احترام سيبويه، فراح يتكلم العربية بلغة دولة بنين التي سقطت فيها الطائرة.

لا أستطيع أن أتهم جان عبيد (72 سنة) بالعداء للعربية والعروبة. فهو ناصري قديم، وهو سياسي ماروني مخضرم ومرشح مزمن لرئاسة لبنان. وله حظ كبير فيها، فهو يتمتع بثقة سورية، ولا يبقى عليه سوى التمتع بثقة المعلم سيبويه وتعلم لغته.

لا أدري ما إذا كان النحس الذي حل بأكثر من وزير خارجية هذا العام قد لحق أيضا بالوزير عبيد. وشكرا لله، فقد عاد سالما من كوتونو. لكن نده الوزير كولن باول دخل المستشفى وخرج بلا بروستات. ودخل الوزير أحمد ماهر المسجد الأقصى، وخرج محمولا على الأكتاف. وقابل الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني كل وزراء خارجية اسرائيل وما زال وزيرا لخارجية قطر. وفقدت آنا ليند وزيرة خارجية السويد حياتها بطعنة سكين. ودخل فاروق الشرع مستشفى بيروت الأميركي لتصحيح مسار القلب، وما زال وزيرا للخارجية منذ عشرين سنة.

أترك نحس وزراء الخارجية، وأعود الى الطائرة المنكوبة لمجرد الإشارة إلى أن الاربعين راكبا الناجين هم الحمولة الزائدة التي تسببت بقتل زملائهم الـ 133 أصحاب الحمولة المشروعة.

متى تتعلم شركات الطيران الكف عن اللعب بحياة الركاب، وعدم تحويلهم في الجو الى أصفار وأرقام في لعبة الربح والتجارة؟

* الثلاثاء 30 ديسمبر: أصيبت بقرة أميركية تعيش في ضواحي واشنطن بجنون البقر. وهي لا تعرف من أين جاءتها العدوى. قالت البقرة إنها لم تزر البيت الأبيض، ولم تذهب الى تكساس، ولم تقابل في حياتها دونالد رامسفيلد، ولم تصافح الفيلسوف وولفويتش. وليست عضوا في الجناح الأصولي في الحزب الجمهوري الحاكم.

اعتبرت إدارة بوش الخبر من أكاذيب المراسلين الذين يتابعون حرب البقر في العراق. واكتفت بإرسال البقرة الى مختبرات طوني المتخصصة بكشف الجنون في البقر منذ أيام البقرة الحديدية تاتشر.

الرئيس بوش لا يثق إلا ببلير. ولم يعلن رسميا جنون البقرة إلا بعدما أكد له رئيس وزراء بريطانيا جنونها الذي لا علاقة له بجنون الكيماوي المزدوج الذي لم يعثر عليه في بلاد صدام حسين، لكنه تسبب في الحرب المجنونة التي شنت عليه.

ويبدو أن مختبرات الأمن الأميركية عادت فاكتشفت بعد التحقيق مع البقرة المجنونة أنها تسللت مع الإرهابيين العرب الذين جاءوا محمولين على ظهرها من كندا الموبوءة بالأبقار الأوروبية. وطمأنت الإدارة الأميركية على الأثر أبقار العالم بأنها ستعامل البقرة المجنونة بالرأفة. فقد أرسلتها الى المسلخ، وصرفت النظر عن اعتقالها في غوانتانامو.

هل أصيب العالم بجنون البقر دون أن يدري؟! أرجح ذلك. فما حدث في هذا العام السيئ السمعة من حروب وإرهاب وفوضى دولية ناجم بالتأكيد عن حالة جنون بقرية عالمية. فالحيوانات التي نأكلها تأكل العلف المخلوط بروثها وبقايا لحومها وعظامها. الأسماك مصابة بالسموم التي تقذف بها المصانع الى الأنهار والبحار. ألياف القمح والبقول والفواكه تحتوي على المبيدات التي لا تفرق بين الحشرات والانسان. مياه الشرب ملوثة بمياه المجاري المتسربة الى الآبار والينابيع. الهواء الذي نتنفسه ملوث بعوادم السيارات في المدن التي نسكنها.

من لم يمت بالجنون والتلوث، فالفرصة أمامه كبيرة للموت بغضب الطبيعة وزلازلها، أو بمتعة السياحة التي حولت الطائرات الى زرائب للركاب.

ماذا نأكل، إذن، وماذا نشرب ونتنفس؟!

باريس لا تحب أن تتفلسف. والعالم لا يبحث عن جواب. سوف تطفئ باريس الأنوار غدا الأربعاء، وتبحث عن الدفء وهي تطبع قبلة على فم عام جديد، عاشق للحياة جديد، عالم مجنون بحب الحياة.