مسلسل الحب الفاشل.. بين أمريكا والعرب

TT

في حديقة عامة جلس الرجل الى جوار رجل آخر، لم يكلمه للحظات، ثم وقف واخرج سكينا حادة من الجانبين وطعن بها نفسه ثم جرى في اتجاه الرجل الآخر واحتضنه بقوة فدخل سن السكين الآخر في احشاء الرجل الثاني. هذا مشهد من مسرحية عبثية «لأدوارد البي» بعنوان «قصة الحديقة» The Zoo Story. هنا لم يكن طعن الرجل لنفسه او التصاقه بالرجل الثاني عن طريق السن الآخر للسكين بدافع الكراهية، لكنها كانت محاولة يائسة للتواصل في عصر اغترب فيه الجميع مع غياب المرجعيات والحد الادنى من القواسم المشتركة، فليس لدى الرجل ما يمكن ان يقوله لذاك الغريب الجالس الى جواره، لا وسيلة اتصال تجمعهما سوى السكين، اتصال فيزيائي على غرار جماع بين رجل وامرأة سواء أكان ذلك بدافع حب ورضا او لذة واغتصاب.

في هذه القصة العبثية القصيرة فحوى حالنا اليوم وملخص علاقاتنا بأنفسنا وبالآخرين وبما يدور حولنا.

طغت هذه القصة على حافة الوعي عندي عندما سمعت بالترتيبات الجارية لأحداث أشبه وربما اكبر من احداث 11 سبتمبر 2001، كذلك دغدغت القصة شعوري عندما قرأت خطاب الشيخ القرضاوي الى جاك شيراك، رئيس فرنسا، في شأن الحجاب، وكذلك تذكرت القصة كلما شهدت تفجيرا في العراق او حالة انتحار في الاراضي الفلسطينية المحتلة، تذكرت تلك الحالة الفاشلة من الاتصال في زمن زاد فيه الاتصال عن حده عن طريق ثورة المعلومات الهائلة لينقلب الى حالة من الريبة والاغتراب الداخلي والخارجي، اغتراب عن النفس وعن الاوطان وعن العالم، يكون فيه العنف وسيلة اتصال ضمن وسائل عدة تبدو في معظمها فاشلة او في احسن الاحوال محدودة القدرة. ودعني اضرب بعض الامثلة مصحوبة بقراءتي الخاصة لها، وابدأ بأحداث 11 سبتمبر 2001.

مثل دخول الطائرات الانتحارية في برجي التجارة في نيويورك كمثل الرجلين في قصة «ادوارد البي»، كانت محاولة اتصال بين حضارتين تدنى الحوار بينهما الى درجة لم يكن فيها لغة مشتركة بين الطرفين، طائرات الحادي عشر من سبتمبر هي السكين في رواية ادوارد البي ومثل محمد عطا وصحبه وجه الحضارة العربية بينما مثلت الابراج رموز امريكا، دخول الطائرات في البرجين هي حالة اتصال، جماع بين حضارتين، لكنه اشبه بجماع الاغتصاب. ورغم ان الحديث بين الشرق والغرب تمحور حول سؤال لماذا يكرهوننا؟!

الا ان الحب كان جزءا اساسيا في هذه العملية، حب كالحب المصاحب للاغتصاب، من نوع غريب وغير مألوف، لكنه حب في النهاية او رغبة جامحة في الاتصال، فهؤلاء الشباب الذين دمروا الابراج لم يكونوا كارهين لامريكا والغرب، فمظهرهم غربي، وكذلك تعليمهم وتدريبهم، تعلموا في مدارس الغرب في بلادهم الاصلية، فهم مدركون لوجود امريكا في حياتهم، كذلك عاشوا في الغرب، ولكنها معيشة غريب ومغترب، حالة من الاغتراب تبحث عن وسيلة للتواصل في زمن فشلت فيه لغات اخرى للتواصل، «كرجلي ادوارد البي»، يتواصلان معا عن طريق السكين، يجتمعان معا لحظة الألم وهما في طريقهما الى الموت، ورغم هذا فرغبة الاتصال قائمة، وكذلك رغبة المشاركة الانسانية، رغبة جامحة في ان يتحدث كل منهما الى الآخر، ولكنها وسيلة مدمرة، تعد آخر وسائل الاتصال، 11 سبتمبر لم يكن عملا كارها كما يتصور البعض، 11 سبتمبر، كان رمزا لحب فاشل بين امريكا والعرب. نرى هذا الحب والغضب معا كل يوم امام السفارات الامريكية في سوريا وفي مصر وغيرهما من البلدان، اذ ترى نفس الشباب الذين يتظاهرون بالامس ويلقون السفارة بالحجارة، هم نفس الطابور في اليوم التالي من منتظري تأشيرات دخول الى امريكا. حالة من المشاعر المختلطة.

مهم للغرب ان يعرف ان جماعتنا في العالم العربي لا يكرهون بالحجم الذي تصوره صحافة الغرب، فالناظر الى عمق الحالة العربية يدرك بأن العربي غير كاره اصلا، لكنه كاره على مستوى الاداء المسرحي الاجتماعي. فإذا اخذنا دافع القتل عند العرب في حال جرائم الشرف في الاردن على سبيل المثال، فأدعي ان الرجل الذي يقتل ابنته انتقاما لشرفه لا يؤدي هذا العمل سرا، ولكنه يؤديه علنا، لأنه يقتل من اجل المجتمع لا من اجل القتل والتشفي، انه «يغسل عارا» اجتماعيا، اذن القتل هنا ليس بدافع اسود نابع من القلب بقدر ما يكون القاتل ايضا مظلوما لأنه أنجز مهمة ترضي محيطه الاجتماعي، لكنها مهمة ستتركه يتعذب داخليا بوازع الدين والضمير وغيرهما.

قراءة اخرى استطيع ان اقدمها للعربي الانتحاري في فلسطين وفي العراق وفي لبنان، الانتحاري شخص يقتل، لكنه غير قادر على رؤية من قتل، انه يموت ربما قبل ضحيته، اذن هو لا يرى فعل القتل او غير قادر مشاعريا على رؤية الدماء لذلك فضل ان يموت مع ضحاياه، ولو رأى القاتل دماء المقتول ما استطاع العيش بعد ذلك. اذن ليس كل القتل اسود، لكن له دوافعه التي لا تبرره، لكنها موجودة.

اذا اخذنا حالة محمد عطا وحاولنا ان نفسر انتحاره او قراءة النص الانتحاري لاكتشفنا ان محمد عطا مثله مثل كثيرين من الشباب العرب الذين امتلأت رؤوسهم بمقولات ماضي الافتخار العربي ودور العرب في صناعة التاريخ الانساني، ثم ينظر الى ما حوله من ملبس ومأكل ومشرب ووسائل اتصال (تليفون، سيارة، تلفزيون) فيجد ان جميعها غربية، ينظر الى غرفته المكيفة، والكهرباء التي يستمتع بها كطاقة تشغل الكومبيوتر الشخصي وتضيء له حجرته فيكتشف ان حضارة الغرب وراء كل ذلك، تبدو له حالته كما فحل البصل، فعندما يبدأ في رفع طبقاته طبقة تلو الاخرى باحثا عن جوهر عربي ربما في قلب البصلة، يكتشف ان كل التراكم الحضاري للطبقات هو في الحقيقة من نتاج الغرب، ينزع قشور البصلة قشرة قشرة باحثا عما له فيها حتى يصل الى آخرها، فيكتشف ان ما له هو لا شيء. هنا يتأمل الانتحار، لأنه الآن موجود في لحظة على خطوط التماس ما بين الغرب والشرق. فإما ان يعترف بأنه جزء من عالم حديث شكلته الاسهامات العلمية الغربية، ويحاول ان يقبل بأنه هو ايضا نتاج الحضارة الغربية، او يتنكر لها، ويتنكر لنفسه عندما يكتشف زيف ما حشونا به رأسه بكلام يقول ان في جوهر البصلة اصلا حضاريا واصلا عربيا، لأنه لم يجد ذلك عندما قلّب كل الطبقات. لحظة التنكر هذه هي لحظة الاتصال السلبي مع حضارة الغرب وايضا لحظة اتصال سلبي مع حضارته، وكذلك مع ذاته. لذلك يبدو مشروع الاتصال الانتحاري هنا هو افضل وسائل الاتصال والمصالحة بين تلك المتناقضات التي فشلت اللغة في وجود صيغة تصالح لها.

والناظر الى حالة العنف العراقي ايضا لا بد ان يرى حبا تحت كل هذا الكره المظهري، ويرى فشل الحالة الاتصالية الطبيعية من اجل حالة اتصالية عنيفة. فعلى مدى 35 عاما عاشها العراقيون تحت حكم صدام، لم تكن اللغة العربية لغتهم اليومية، لقد طور العراقيون تحت قمع صدام وزبانيته لغة اخرى، لغة مشفرة Coded تحميهم من بطش القائمين على السلطة، فبدلا من ان يقولوا حزب البعث كانوا يشيرون اليهم بــ«الجماعة» او بشفرات اخرى، وبدلا من استخدام اسم صدام صراحة كانوا يقولون «صاحبنا»..الخ. اذن اللغة التي يتحدثها العراقيون هي لغة غير اللغة العادية، وان اللغة العربية الطبيعية هي لغة ثانية بالنسبة للعراقيين كالانجليزية والفرنسية، لذا لا بد ان يكون لدينا الصبر حتى يعود العراقيون الى استخدام لغة طبيعية لاتصال طبيعي، اللغة المستخدمة الآن هي لغة «قصة ادوارد البي» مرة اخرى لغة السكين الرابطة بين الرجلين في الحديقة، لكنها لا تعبر عن كراهية بقدر ما هي تعبر عن محاولة فاشلة للمشاركة، فاذا منحنا العراقيين فرصة مشاركة بطرق اخرى ربما انتهى العنف تماما كوسيلة تواصل.

واعود اخيرا الى مثل خطاب الشيخ القرضاوي الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك. القرضاوي ينادي شيراك بأنه «رب الاسرة الفرنسية»، قائلا له ان دوره ـ اي دور شيراك ـ هو دور الاب في الاسرة ولا يجب ان يفرق الاب بين ابنائه في مسألة الحجاب.

حديث القرضاوي يبدو طبيعيا بالعربية عندما يقرأه العرب، لكنه يبدو غريبا جدا بالفرنسية والانجليزية.

القرضاوي يحدث شيراك كرب الاسرة وكأنه يحدث السادات في مصر في السبعينات من القرن المنصرم، والسادات كان مغرما بدور كبير العائلة المصرية، لكن شيراك غير ذلك، شيراك لا يملك السلطة ان يمنح او يمنع في موضوع الحجاب، فالدولة الفرنسية هي دولة مؤسسات، ودور الرئيس فيها محكوم بعلاقات مؤسسية متشابكة. فلا يستطيع شيراك حلا او عقدا في هذه المسألة، ومع ذلك يكتب القرضاوي اليه وهو رئيس الافتاء الاوروبي. اتصال مهم، لكنه يفشل في ارسال الرسالة الى العنوان الصحيح. واذا ما استمر هذا الفشل فلن تكون هناك وسيلة اتصال اخرى بين شيراك والقرضاوي الا اتصال ادوارد البي في جاردان او حديقة عامة في باريس. مساحات حب تتحول الى غضب، لكن ألم يقل من هم قبلنا إن من الحب ما قتل.

عدد: 9162