رسالة ضخمة.. لكنها داخل زجاجة عائمة ..!

TT

وجدت الدواء لنزعة معاداة أميركا، أطلب منك فقط أن تلحق بي في بولندا. فبعد عامين من الزيارات التي قصرتها على أوروبا الغربية والشرق الأوسط، فإن بولندا بدت لي كالمنتجع. فقد قضيت هنا ثلاثة أيام فقط، تداويت خلالها، بالتدليك البارع والمياه الدافئة، من كل جروح العداء لأميركا. فالناس هنا يقولون لك انهم يحبون أميركا دونما حاجة إلى الهمس. ما الذي جرى لهؤلاء القوم؟ هل انتهت دورة اشتراكهم في «لوموند دبلوماتيك» ؟ ألم يتلقوا الرسالة من باريس وبرلين؟

لا، لم تصلهم هذه الرسالة.

والواقع أن بولندا هي الترياق المضاد للعداء الأوروبي لأميركا. وبالنسبة إلى فرنسا فإن بولندا هي «أدفيل» بالنسبة لآلام العنق. أو هي، كما قال مايكل ماندلباوم، خبير الشؤون الخارجية بجون هوبكنز، عندما زار بولندا:

«بولندا هي أكثر الأقطار انحيازا إلى أميركا بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها».

ماذا يعني كل هذا ؟

يرجع الأمر إلى الجغرافيا والتاريخ. فلا يوجد دافع أقوى من العيش بين روسيا وألمانيا، اللتان حاولتا مرارا إلغاء بولندا من الخارطة، ليجعل البولنديين يطمئنون لوجود أميركي عسكري دائم في أوروبا. قال سيد إيوا سويدريسكا، 25 سنة، الطالب بجامعة وارسو: «انا الطالب الصغير في المدرسة الذي يشعر بالسعادة عندما يصادقه الطالب الكبير.. إنه شعور لطيف».

إن كل حقائق التاريخ والجغرافيا التي نسيها الشباب الغربي، لكونه شب وترعرع تحت ظل الاتحاد الأوروبي، ما زالت تحتل موقعا مركزيا في الوعي البولندي، و خاصة بعد سقوط حائظ برلين عام 1989.

قال يان ميروسلاف، 22 سنة، وهو كذلك طالب بجامعة وارسو: «نحن ما نزال نذكر أشياء كثيرة. ونرغب في التعاون مع أميركا بدلا من المعارضة في كل شيء. أما الأوروبيون الغربيون فلا يذكرون اشياء كثيرة، لأنهم يعيشون حياة مريحة أكثر مما ينبغي».

ولا غرابة إذن من ان البولنديين عندما يفكرون في أميركا فإنما يفكرون في الحرية. ويذكرون أجيالا من الرؤساء الأميركيين، وهم يعبرون عن غضبهم على مضطهديهم الشيوعيين. وثمة رسالة ضخمة داخل الزجاجة العائمة. أما في العالم العربي، ونسبة لأن الولايات المتحدة ظلت لفترات طويلة تدعم المتجبرين العرب، الذين فتحوا الممرات أمام النفط العربي ليصل إلى أميركا، فإن أميركا أصبحت تعني النفاق. ولكن في بولندا حيث ظلت الولايات المتحدة تعزف لحن الحرية، فقد صارت مرادفة للحرية. وعلينا أن نتذكر هذه الحقائق، فحقيقتنا ليست سوى أفعالنا.

إن انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي سيعطي الولايات المتحدة صديقا هاما وقويا داخل الاتحاد، يوازن تلك القوى التي تريد استخدام نزعة العداء لأميركا كقوة لاحمة لجسد التحالف المتمدد.

ولكن مهما كانت قوة الرابطة البولندية مع أميركا هذه الايام، فإننا يجب ألا نتعامل معها كأمر مفروغ منه. فلدى بولندا حاليا 2400 جندي في العراق. هذا هو الجانب الجيد من المسألة. ولكن الخبر السيء هو ان 75% من البولنديين يعارضون إرسال هذه القوات. ويقول لك المسؤولون البولنديون ان بولندا أرسلت قوات إلى العراق حتى تساعد في بقاء الأميركيين في أوروبا. ولكن الجمهور لا يقيم مثل هذه العلاقات، وأغلب الناس لا يفهمون لماذا أرسلوا أبناءهم إلى هناك، وماهي الفوائد التي ستجنيها بولندا من إرسالهم. (ماذا إذا اعطينا بعض تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، لبعض البولنديين؟) حينها سيضحك «قدامى» الأوروبيين على البولنديين، وسيكون هذا بمثابة النار الحارقة للعلاقات البولندية ـ الأميركية.

ومن الناحية الأخرى، وبمجرد استيعاب هولندا في الاتحاد الأوروبي، فإن الشباب البولندي سيعيش هو أيضا حالة النرفانا السائدة في الاتحاد الأوروبي، حيث صار العداء لأميركا مختلطا بمياه الشرب. ومن الحقائق المؤسفة ان كثيرا من برامج الدبلوماسية الشعبية التي كانت الولايات المتحدة توجهها نحو أوروبا الشرقية، قد خفضت بصورة كبيرة ليعاد توجيهها إلى العالم الإسلامي. وكان ذلك توقيتا سيئا.

هناك منافسة حاليا بين الولايات المتحدة الأميركية والولايات المتحدة الأوروبية، على الجيل المقبل من الشباب البولندي، الذي لا يحس بنفس الارتباط بأميركا الذي كان يحسه آباؤهم. قال خبير السياسة الخارجية البولندي، غريغرورز كوسترزيوا زورباس: «الجيل الجديد في بولندا يحب الموسيقى الشعبية الأميركية، ولكن صلته بالثقافة الأميركية في تظاهراتها الراقية، مثل التعليم، أقل بكثير. ويجد الشباب البولندي أن من الأسهل بالنسبة إليه أن يتلقى دراسته الجامعية في ألمانيا أو فرنسا».

ولكن إذا وضعنا في الاعتبار جغرافية بولندا و تاريخها ، لتبينا أنه سيكون من الصعب عليها الابتعاد عن أميركا. فليس من المحتمل أن تكون بولندا مثل فرنسا. ولكن ينبغي ألا نفترض أنها ستظل بولندا عام 1989 إلى الأبد. وإذا تغيرت فإن هذا سيكون له آثار عميقة على الموقف الأميركي في أوروبا.

* خدمة «نيويورك تايمز»; خاص ب«الشرق الأوسط»

عدد: 9162