الهروب إلى المريخ

TT

الدنيا دلائل وإشارات.. وقد اختتم العام المنصرم بصراخ وعويل، على أمل ان لا تفتتح السنة الجديدة على الإيقاع الجنائزي ذاته. فالأرض انشقت لتبتلع عشرات الآلاف من الإيرانيين، وانفجرت غازاً خانقاً في وجه الصينيين، ولم يرحم البحر اللبنانيين فشربهم في بنين بعد ان تحطمت طائرتهم وقذفتهم في لجج المحيط. ولا اعتراض على حكم القدر، لكن البشر لهم اليد الطولى في هذا الشر المستطير. فأساليب البناء لم تتغير في بام منذ قرون وما زالت تستلهم عبقرية الجدود. وفي شنغهاي لم يحتط المسؤولون للحد الأدنى المطلوب لحفظ سلامة العاملين. والمالكون اللبنانيون للطائرة المنكوبة حمّلوها ما لا تطيق حتى قسموا ظهر الحديد. وتدور الدائرة دائماً لتقع الكارثة على رأس الفقير، على مرأى ومسمع من الجشع والمستفيد الذي يذرف دموع التماسيح. وكنا سنجد عزاءنا ونستعيد بعضاً من حبورنا لو أن المسبار بيغل لم يتعثر في رحلته إلى المريخ وجاءنا بأخبار تليق ببهجة العيد، وعن أقرباء لنا في ذاك الكوكب الأحمر العجيب. فالأوروبيون والأميركيون باتوا مهووسين في البحث عن آثار الحياة على الكواكب المعلومة والمجهولة، ويبذرون مئات مليارات الدولارات في سبيل العثور على كائن واحد يأتيهم من الفضاء ويحل معضلتهم، بعد كل هذا البحث العقيم، في ما هم لا يشعرون بأي عقدة ذنب تجاه إخوانهم الارضيين الممتحنين. والأنكى أن الهنود والصينيين لحقهم مس الجنون ونسوا أولادهم المعوزين من صلبهم ليلحقوا بركب المتطورين. وحدّث ولا حرج عن الإسرائيليين الذين يطلقون أقمارهم الصناعية على اعتبار أنهم يعيشون عصر الانفتاح بغاية الزخم، ويرفعون الجدران من حولهم لتحجب عنهم جيرانهم وأبناء عمومتهم في الدم والنسب. فبعد حملة «السور الواقي» العسكرية (لاحظ سياسة العزل اللفظية) التي تسلم خلالها الجنود رسائل حب من الطلاب لرفع روحهم المعنوية، ذهل التربويون لكمّ الكره المدفون في القلوب، فمع الحلوى والهدايا السخية كتب طفل يشجع جندياً: «أصلي من أجل عودتك سالماً إلى البيت، أقتل من أجلي عشرة أشخاص على الأقل»، وترجى طفل آخر أحد الجنود:« تجاهل كل القوانين واسحقهم». وقد كتبت ايمونا إيلون في «يديعوت أحرونوت» تحذّر من خطورة هذه البغضاء المستشرية على مستقبل إسرائيل الذي يتغذى على مص الدماء. لكن التكنولوجيا صار بمقدورها أن تحل كل معضلة وتزيل آثار البؤس عن النفوس المعذبة بأحقادها، ولم يمض إلا وقت قصير حتى أعلن أحدهم عن خدمة لسكان إسرائيل، الذين يتقاعسون عن الذهاب إلى حائط المبكى، وطلب المغفرة من الرب. وبرسالة هاتفية صغيرة لا يزيد سعرها عن الدولار تصل دعوة الإسرائيلي إلى الحائط المقدس برعاية أحد رجال الدين الذين تم توظيفهم لتحقيق هذه الغاية. وقد طمأنت الشركة نفسها اليهود في أرجاء المعمورة أنها قد تستقبل أدعيتهم لاحقاً بالفاكس أو وسائل أخرى أكثر تطوراً. ومغزى الكلام أن لكل مشكلة حلاّ، والبرد الذي يقضم العظام بسبب إقامة السدود بين الأرضيين بالإمكان رده بالصلوات التكنولوجية أو العلاقات المأمولة مع الكائنات الفضائية. فخلال هذا العام الصاعق الماحق الذي احتل خلاله العراق، واستطاعت بعده أميركا أن تكسب أكبر نسبة بغضاء عرفها شعب على وجه الكرة الأرضية، وهجم اثناءه مرض« سارس» انتقاماً من أكلة الكلاب والقطط، وهبت فيه الأبقار المجنونة ثأراً من علاّفيها فاقدي الضمير والنظر. في هذا العام البغيض نفسه حققت الاكتشافات الفضائية أعلى مستوى لها منذ هبطت مركبة «أبولو» على سطح القمر منذ عام 1969. هذا ما يقوله راصدو حركة الإنسان باتجاه السماء بعد ان ضاقت به الأرض بما رحبت. إلا ان هؤلاء العلماء أنفسهم يعترفون بان المبالغ المهولة المصروفة على مشاريع طموحة لا تأتي بنتائج تتناسب وحجم البذخ المرصود. وإذا كان الهدف في النهاية من التقدم هو سعادة الإنسان، فالبشري لا يحصد سوى الخيبة والحرمان. والنقيق يتصاعد على قدم وساق، فأميركا خائفة من متفجرات في العيد، ورئيس المفوضية الأوروبية رومانو برودي نجا بالصدفة من طرد مفخخ أراد القضاء عليه، وبرويز مشرف في باكستان يطارده الصيادون بلا هوادة، والاغتيالات السياسية وصلت الى الدول الاسكندنافية وقد أعيت قبلها القارة الافريقية. وبعد ان اشتكى العلمانيون طويلاً من كيد المتطرفين الدينيين لاسيما الإسلاميين انتهت السنة الحالية بشكوى رجال الدين من تطرف العلمانيين الأوروبيين. ومن الصعب تصور حلول للعام الجديد ما دامت الأنظار مخطوفة إلى مكان جد بعيد، وطالما ان أذكياء العالم يحلمون بالمريخ ويتمادون في تدمير التاريخ، ويمعنون في تكسير الجسور الأرضية وهم يحتفلون بافتتاح جسور فضائية. وليس في الأمر أدنى حنين لزمن البغال والحمير، لكن ما باليد حيلة حين يحذر المجتمعون في قمة التكنولوجيا والمعلومات من مخاطر واقع جديد تصبح فيه الآلة سيدة والإنسان بهلوانا في سيرك لا تعرف من يسيره ووفق أي منطق يبحث عن تحقيق الحلم المستحيل. ورغم ان ما نشاهده على المسرح الأرضي الكبير هو أقرب إلى التراجيديات الإغريقية منه إلى أي شيء آخر، إلا أن اليابانيين يبدون إلى الآن على الأقل، وكأنهم الأقرب إلى الحكمة الضالة. فقد عرفوا من المحن الكثير ومن الصبر والعض على الجرح ما لم يجده بشري، ولعلهم في كل هذا يهتدون بنور ما قاله أحد كبارهم وهو أكيو موريتا مؤسسة شركة سوني العالمية: «إذا عشت في الحياة معتقدا ان طريقك هو الأفضل دائماً، فسوف تتجاوزك جميع الأفكار الجديدة في العالم».

[email protected]