فقط نريد أن نفهم...!!

TT

الناظر الى المؤتمر الاخير المنعقد في قطر برعاية معهد بروكنز الامريكي، وبرعاية السفير مارتن انديك، سفير امريكا السابق لدى اسرائيل، يرى مؤتمرا جمع الشيخ القرضاوي، او زعيم حركة التحريض الديني في المنطقة، كما اسماه زميلنا عبد الرحمن الراشد، مع مارتن انديك وعشرات ممن يؤيدون اسرائيل تأييدا مطلقا، مع من يشجعون ويروجون للتطرف في العالم العربي. ومع ذلك يصر الرئيس بوش ومعه كثيرون على مبدأ "إما معنا او مع الارهاب".

وانا هنا بدوري اسأل الرئيس بوش في حالة ما يحدث في قطر، ان كان هو نفسه يستطيع عملية الفرز ليقول لنا "من معه ومن مع الارهاب؟!"، فقط نريد ان نفهم ماذا تريد واشنطن!!

ففي قطر الان قاعدتا العديد والسيلية اللتان تمثلان اليد الطولى في المنطقة العربية، ورمزي الهيمنة والتمدد، تستضيفان الافا من الجنود والضباط الامريكيين الذين يديرون الحرب في العراق وفي افغانستان، والى جوار القاعدتين الامريكيتين توجد قناة الجزيرة التي يراها الامريكيون على انها المحرض الاساس للجماهير الثائرة التي تكره كل شيء امريكي، تشحنهم بالكراهية لكل ما هو امريكي.

كذلك في قطر ايضا فرع معهد بروكنز للحوار بين امريكا والعالم الاسلامي، او من تراهم الادارة الحالية ممثلين للعالم الاسلامي. ايضا افتتح اخيرا في قطر فرع لمؤسسة راند للبحوث والتي تستقي معظم عقودها من وزارة الدفاع الامريكية (البنتاجون)، كذلك ايضا افتتحت عشرات الجامعات الامريكية فروعا لها في الدوحة كان اخرها جامعتا كورنيل وجورجتاون. السؤال الذي يحير اعتى محللي السياسة الان هو كيف يستقيم هذا التناقض ما بين كل هذا الوجود الامريكي الضخم في قطر جنبا الى جنب مع زعماء حركة الاخوان المسلمين في الجزيرة وضيوفهم من القوميين العرب، او من يتخذون من القومية راية لمقاومة الامريكيين؟ سؤال تحار فيه كل العقول يخص وجود الاسرائيليين والامريكيين والاخوان والقوميين وبعض من يشتبه فيهم بتمويل القاعدة.. كيف يتسنى لبلد صغير ان يستضيف كل هذه القوى التي من المفترض ان مصالحها متناقضة، على الاقل فيما يخص ما هو معلن؟ وليس من اصول التحليل السياسي ان نفتش في النوايا حتى لا ندخل في حارات نظريات المؤامرة. ولكن كيف لنا ان نفسر هذا الوجود المختلط من تلك الجماعات المختلفة في ساحة محددة من الكيلومترات؟! ثم تقولون بان المنطقة مصابة بداء نظرية المؤامرة! هذا الجمع بين رواد الحنجوري على شاشات الجزيرة وضيوفها وجماعة جون ابي زيد من القيادات الامريكية يستعصي تفسيره على العقل، ومع ذلك سأحاول هنا ان اقدم مجموعة من السيناريوهات التي قد تقترب من التفسير شبه المعقول.

> السيناريو الاول يقول ان الولايات المتحدة كانت لها خطة لنقل القيادة المركزية من تامبا في ولاية فلوريدا الى دولة خليجية، وانتهى الامر عندما وقع الاختيار على قطر، وهنا ظهرت مشكلة الارهاب كمصدر تهديد لامن هذه القيادة والقواعد الامريكية المصاحبة، وكحل اولي طرح بعض المسؤولين عن القاعدة الجديدة اقامة جدار عازل ما بين القاعدة الامريكية وسكان البلاد والعاملين فيها، بناء جدار فعلي كجدار شارون، ولكن بعد الدراسة والتحليل تبين للمسؤولين عن الامن ان جدارا كهذا لن يكون فعالا، وهنا تفتق عقل القائمين على امن القاعدة عن فكرة بناء جدار او عازل صوتي يمنح نفس القوى التي هي مصدر التهديد فرصة التعبير عن غضبها ومشاعرها في قناة تلفزيونية الى جانب القاعدة الامريكية، يأتي اليها قادة الشعارات يلقون كل ما في جعبتهم على شاشتها ثم يأخذون مكافأة اللقاء، ثم يعودون، وبهذا تحصل الجماهير العربية على جرعة الحماس والشهامة المطلوبة، ويتركون القاعدة وشأنها، وهذا بالفعل ما حدث، حيث غطى صوت الجزيرة على وجود القاعدة في قطر، وبدلا من الحديث عن منبع ضرب العراق بدأت الجماهير تتحدث عن المصب وعن ضحايا هذا الضرب. اذن بدلا من الحديث عمن يضرب انشغل الناس بالحديث عن المضروب (على الاقل في مرحلة الحرب). ومن هنا تكون الجزيرة كجدار صوتي عازل ما بين قاعدة العديد والجماهير الغاضبة قد نجحت تماما في القيام بمهمتها على اكمل وجه ولم نر عملا ارهابيا واحدا في قطر، على الاقل في فترة الحرب، وربما تتغير الاستراتيجية بعد الحرب، وقد بدأت ملامح التغيير في الظهور، ولكن هذا، وان كان كسيناريو يفسر لنا لماذا الجزيرة في هذا التوقيت في قطر، الا انه لا يستطيع ان يفسر لنا دور الجزيرة في الاستراتيجية الامريكية الكبرى في المنطقة، رغم انه قد يفسر عدم وجود حالة واحدة من حالات الارهاب على الاراضي القطرية، وهذا ما يأخذنا الى السيناريو الثاني الذي ربما يقدم تفسيرا افضل.

> السيناريو الثاني يضع الجزيرة في سياق اقليمي اكبر مما وضعته في السيناريو الاول الذي ركز على موضوع امن قاعدة العديد ضد الارهاب في بقعة محددة هي قطر، ولكن السيناريو الثاني يأخذ الاهداف الامريكية على المستوى الاقليمي في الاعتبار.

هنا يمكن للفرد ان يتصور ان الاستراتيجية الامريكية المعلنة هي تغيير الانظمة التي بدأت بالعراق ونظام صدام وكذلك نشر الديموقراطية (مع التحفظ على النوايا) وكذلك زعزعة الانظمة بغية تفكيك البنى التحتية للمجتمعات.

في هذا السيناريو يكون دور القوة العسكرية المتمثلة في قاعدتي العديد والسيلية هو دور اليد العسكرية الطويلة القادرة على تغيير الانظمة من اعلى، من خلال توجيه ضربات الى الاهداف ذات القيمة. ويكون دور الجزيرة هو تهييج الجماهير للضغط على الانظمة من اسفل عن طريق خلخلة القناعات الاجتماعية، وزيادة عوامل التعرية المؤثرة على شرعية الانظمة من خلال الدعوات المختلفة المدفوعة بالدين احيانا او بالعروبة احيانا اخرى، دعوات تهدف الى القفز فوق الدولة القومية ونزع الشرعية عنها، واضفاء الشرعية على كيانات غير موجودة مثل الامة العربية او الامة الاسلامية، كيانات خارج اطار شرعية الدولة، ومتى ما كفرت الجماهير بفكرة الدولة (المصرية او السعودية او السورية) وتبنت فكرة الامة الاسلامية والعربية، فان ذلك بالضرورة سيحول هذه الدول الى كيانات ثانوية محدودة القدرة والنفع وكذلك الفائدة. وهكذا من خلال الضغط العسكري من اعلى عن طريق القوات العسكرية الموجودة في المنطقة، والضغط من اسفل عن طريق جمهور الجزيرة الغاضب، تجد هذه الدول نفسها محاصرة، بضغوط دولية دبلوماسية تدعو للتغيير، وضغوط عسكرية، وكذلك ضغوط شعبية. وايا كانت خيارات هذه الانظمة في جو الضغط المتزايد هذا فانها لن تكون خيارات صائبة، لان السياسات الناتجة عنها ستكون سياسات ولدت في جو غير طبيعي، تصب في سيناريو الخلخلة.

في هذا السيناريو يمكننا القول بأن دور الجزيرة في خلخلة البنية الاجتماعية الاقليمية هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية الضغط ثنائية القوة: القوة الصلبة العسكرية (العديد والسيلية) والقوة الناعمة الاعلامية (الجزيرة) لتحقيق الاهداف الامريكية المعلنة من تغيير انظمة وتحولات سياسية محلية.

> السيناريو الثالث يقول بان الجزيرة هي جزء من سيناريو مرتبط بتعظيم دور الحركات الاجتماعية على حساب دور الدول. والناظر الى الحالة الفلسطينية وكيف بدأت حركة حماس تبتلع منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثل اقرب كيان الى دولة، او كيف ان حركة جون قرنق بدأت في ابتلاع الدولة السودانية، او ان حزب الله بدأ في ابتلاع الدولة اللبنانية، يرى اننا هنا بصدد سيناريو التفتيت الذي تبتلع فيه الحركات السياسية الدولة المضيفة لها، وبذلك قد تبتلع حركة جبهة الانقاذ الاسلامي دولة الجزائر، او حركة النهضة تبتلع الدولة التونسية... الخ. المستفيد من تعاظم دور الحركات على حساب الدول، كابتلاع حركة الاخوان المسلمين مثلا الدولة السورية ـ لو حصل ـ هي اسرائيل.

اذن نحن لا نتحدث عن تصور امريكي لرسم ملامح المنطقة ولكننا نتحدث عن سيناريو اسرائيلي، ولكن في هذا السيناريو تبقى هناك اسئلة جوهرية تخص قناة الجزيرة والعاملين فيها والمتحدثين على شاشتها. السؤال هو هل هؤلاء على علم بأنهم جزء من مشهد اكبر ويشاركون فيه طواعية وهم راضون عما يفعلون، ام انهم غير مدركين لدورهم في لعبة العرائس ومن يحركهم؟!

لا اظن ان غلاة القومية الذين نراهم على شاشات الجزيرة من عرب المهجر وعرب المقر، يقبلون ان يشاركوا في زعزعة الاوضاع في بلادهم، وحتى ان كانت زعزعة الاوضاع هي غايتهم، فلا اظنهم يعلمون ان شركاءهم في هذا الامر هم الامريكيون والاسرائيليون والمتطرفون.

هذه مجرد ثلاثة سيناريوهات، قد تقترب من التفسير شبه المعقول، ضمن عشرات السيناريوهات التي تدور برأسي. في محاولة مني لفهم منطق لمكان واحد تخرج فيه صواريخ الكروز وطائرات الـ F15 من جانب، ويخرج منه شريط لزعيم القاعدة اسامة بن لادن من جانب اخر على شاشة الجزيرة وعلى بعد امتار من القاعدة، ثم يأتي فوق كل هذا مؤتمر تجتمع فيه كل متناقضات الحرب على الارهاب. فقط نريد ان نفهم!!