ملاذ العراقي .. من سفاح إلى سفاح ..!

TT

منذ ثلاث سنوات، بالتحديد في 2001/1/20، كتبت مقالاً نشر بجريدة «الوفد» القاهرية، جاء في نهايته الآتي: نشرت جريدة الأهرام الصادرة في 2001/1/16 في صفحتها الثامنة، تحت عنوان «شؤون عربية»، هذين الخبرين متجاورين، الأول، نقلاً عن وكالة الأنباء العراقية، مفاده أن الحكومة العراقية برئاسة صدام حسين قد قررت، ولأسباب إنسانية ، تخصيص مبلغ مائة مليون يورو لفقراء الولايات المتحدة الأميركية، والذين يبلغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة، وأنه تقرر أن يجري توزيع المبلغ تحت إشراف هيئة عراقية يتم تشكيلها لهذا الغرض، وأن يتم إطلاع الأمين العام للأمم المتحدة على هذا القرار. أما الخبر الثاني فجاء به تصريح للدكتور نبيل شعث يعلن أن الدعم العربي، الذي قدرته القمة العربية للقدس والانتفاضة، لم يحوّل منه ـ حتى تاريخه ـ أي شيء! هذه معلومات قديمة لإنعاش ذاكرة من يحاول أن يغالط بتصوير النظام الصدامي وكأنه كان قومياً، حاملاً الهم الفلسطيني في سويداء قلبه. مائة مليون يورو من أموال الشعب العراقي، أنفقها السيد «أسير الحرب» عطاء لفقراء أميركا، في الوقت الذي كانت صورة أطفال العراق الجوعى، المرضى، ترفع صرخات واستغاثات تهيب بالضمائر أن: أنقذونا فالموت يتهددنا.

توقفت أمام جملة كتبها لؤي عبد الله، في مقاله الجميل: «هل وصل الربيع إلى بغداد» بـ«الشرق الأوسط» 21 فبراير 2004، يقول: «... فهذا البلد الذي تركته قبل 26 عاماً كان مثلاً أعلى للأمن...» أهكذا؟ «مثلاً أعلى للأمن»؟ في نفس اليوم 21 فبرايرأتابع برنامجاً في قناة «العربية» عن عائلة صدام، يظهر صديق عدي يتحدث عن اللسان الذي يُقطع، والأذن التي تُبتر، وأرى لقطة لعدي في مزاحه الفاحش يضرب واحداً من ندمائه بالحذاء على رأسه، نزوات مريض تنكل بالأصدقاء والندماء، فأي «أمن مثالي» كان من الممكن أن يرفرف على أهل العراق في ظل نظام تحكم فيه مثل تلك العائلة؟

أصبح خبر اكتشاف مقبرة جماعية جديدة في العراق يمر هادئاً، كأن المقابر الجماعية من المحاصيل الطبيعية لأرض الرافدين. لم تكن هناك آلات تصوير لفضائيات ترصد جرائم السطو من سلطة الدولة الصدامية، وقطع الطرقات، ودهم البيوت وسحب الضحايا بالركلات والصفعات، والطرد والتشريد، والخطف والاعتقال الأبدي حتى الموت بالذبح أو الشنق أو الإذابة، لكن الذاكرة اختزنت هول ما كان مستوراً عن أعين العالم. الجرائم التي حاقت بالشعب العراقي لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولا يمكن رؤيتها إلا خلفية مؤسِّسة لفواجع العراق الحالية. الاحتلال الأميركي للعراق من توابع الزلازل والانهيارات. ظلت مخابرات أميركا تهدي صدام اخباريات عن كل مقاومة أو تدبير للاطاحة به، وتبارك مجازره على طول السنوات حتى تنفرد بإسقاطه ـ (أو ما يبدو إسقاطه) ـ لتبدو هي «الرجل الوطواط» المنقذ القادر وحده على تدمير «الشرير» ـ (وقد بدا في يدها هلاميا متكسراً شبحاً من دخان)ـ الذي لم يستحق منها سوى أن يتحفظ عليه تحت درجة :«أسير حرب»! تغيظني الخطابات النادبة الناعية لما يجري بالعراق تحت الاحتلال، كأن الاحتلال كان اختياراً وانتخاباً وخلاصاً مرجواً لكنه بدد الآمال!

الاستاذ الفاضل خالد القشطيني، وأنا على ثقة أن بئر الألم لا بد عنده غويط، يقول في زاويته المنشورة ب«الشرق الأوسط» 2004/2/16 : «... يتعين إثارة رعب مشابه لما كان في عهد صدام، بحيث يدرك المجرم أن عيون السلطة تترصد له في كل مكان. ربما يليق ادخال عدد من الشرطة المسلحة ضيوفاً على البيوت أو المتاجر بحجة الترصد لمجرمين. الفكرة من ورائها إشاعة شعور الناس بأن قوات الأمن في كل مكان...»، لم أبلع هذا القول الصعب ولا أرضى أن يكون من بعض مزاح الأستاذ القشطيني، كما لم أتصور أن يكون من بعض جدّه، إذ أرجو أن يكون من بعض غضبه الذي يورث الخطأ، فلا يمكن ونحن نرى نهاية صدام المهينة وعاقبة ظلمه وجرائمه، التي يستحقها وأكثر عن جدارة، أن ننصح باقتفاء أثره ونسير على نهجه في التجسس والتلصص وانتهاك الحرمات لكي نصل إلى المسؤولين عن جرائم القتل والنسف ضد الشعب العراقي المكلوم. لابد أن هناك طريقة ما ـ غير الحرام ـ لكي يستتب الأمن. ويظل ما يدور على أرض العراق العزيز يتشابه كثيراً مع أحداث فيلم سينمائي كان عنوانه : «قاتل عند كل زاوية»، فما كاد الشعب العراقي يفلت من القاتل الأول وعصابته حتى وجد نفسه بين زوايا قتلة يتربصون به بدعوى «الإنقاذ». يتعارك القتلة فلا تنزل السكاكين إلا على رقبة الشعب العراقي، ولا تنهدم البيوت إلا على رأسه ولا يحيق الدمار إلا بأمانه وأمنه. وبين صيحات ووجوه تلبس أقنعة «المقاومة»، وصيحات ووجوه تلبس أقنعة «التحرير» و«الإنقاذ» لا يجد العراقي «الملاذ» الواقي من القتلة. لابد لهذا الوطن من مَخْرج بعيداً عن «الالتباسات». مخرج لا يعرف مسالكه سوى هذا الشعب المجروح الذي عانى من «احتلال» صدامي سابق بلون الأرضية، لا يهمه الآن سوى إنقاذ فلوله وذيوله وتعويض خسائره بأنانية انتهجها دوماً، ومن احتلال أجنبي، لا يهمه الآن سوى انقاذ ماء وجهه ومداراة كذباته وتجميل بطشه الذي تفضحه ضراوته ولاإنسانيته، التي تقوده دائماً.

لا بد للشعب العراقي من تملك زمام «مقاومته» و«تحريره» و«نجاته» بيد«واحدة» متوحدة مخلصة، تكون قد تعلمت أن خلاصها من السفاح لا يمكن أن يتحقق على يد سفاح آخر، ولا يمكن أن يتم الاستقرار والأمن لأمّة كل قبيلة فيها أمّة!