صديقي من نجد

TT

مر في العاصمة الاميركية سريعا لمدة يوم، واتصل بي يدعوني للغداء، وعندما لقيته خلته كمعظم زائري المدينة من العرب، فتبادلت معه حديثا عاما مسطحا لا يكشف ولا يكاشف، لكني وجدته يجر الحوار الى قضايا عدة تخص الشأن العربي العام، والسعودي الخاص، وبموضوعية ودقة شديدتين. صديقي الآتي من الرياض جاء عكس كل التوقعات النمطية عن أهل نجد، أو عن السعوديين أو عن أهل الخليج بشكل عام، لا غرو، فقد اتم دراسته في كبريات جامعات العالم يبحث عن معرفة صافية لا يغلفها أو يلونها اطار ايديولوجي. ترددت كثيراً في الكتابة عنه، لأسباب عدة، أولها انه رغم سن الشباب فهو ماقت للمظهرية، تلك الآفة التي ربما تقضي على ما تبقى من الخير في مجتمعاتنا. أما السبب الثاني فهو انني لا أجد في الكتابة عن الأشخاص فائدة كبيرة، إلا إذا جاء الشخص تجسيدا لفكرة أو رمزاً لبارقة أمل في المجتمع العربي أو انه تجسيد لسيئة من سيئات هذه الثقافة.

حواراتي مع صديقي النجدي جسدت بارقة أمل في ظل جو ضبابي يسود الثقافة السياسية العربية، لذلك قررت ان ارسم صورة قلمية له، وللأفكار التي جسدها كإطلالة مشرقة في جو معتم.

كعادة أهل الوديان، كانت لي رؤية مسبقة لأهل الصحراء. رؤية مبنية على قوالب ذهنية جاهزة، ربما لا داعي لذكرها لأنها تملأ الفضاءات الاجتماعية سواء في القاهرة أو في بيروت أو في دمشق.. وغيرها. صديقي النجدي قلب كل هذه التصورات الجاهزة، بعلمه وحساسيته الخاصة.

أول ما أراد أن يرى في العاصمة الاميركية، نظراً لضيق الوقت، كان المتحف الوطني للفنون The National Gallary.

مر سريعا بين فنون عصر النهضة ولوحاته، ولكنه جاء خصيصاً لرؤية لوحات الفنان فان دايك (1599 ـ 1641) وتعامله مع البورتريت Portrait وكأن في هذه الوقفة رسالة خاصة لي. ففان دايك كان رساماً للبورتريت بشكل يمزج الرسمية بعدم الرسمية. فيه درجة عالية من الإنسانية والبساطة الأخاذة، وكان صديقي النجدي ينتقد في الثقافة العربية جمودها ومظهرها الرسمي المتحجر، وكانت في وقفته وتعليقاته ارتجالية فنية، وحسرة على غياب دور للفن في الثقافة العربية. ورغم أن فان دايك اصبح فنان القصر في بريطانيا الا انه كان يصر ومن خلال اعماله على هدم الحاجز بين القصر والشعب على المستوى الشعوري، فقدم لوحاته في عفوية، وكان صديقي الآتي من الرياض جزءاً من لوحاته في عفويته وتعليقاته.

سألته، لماذا يتوقف عند القرن السابع عشر، وفنونه؟ فقال إن تلك الفترة هي بداية الحداثة الأوروبية، بداية بلورة رؤية جديدة لأوروبا ذاتها، انعكست في ما بعد على العالم كله.

قال ذلك بانجليزية سلسة، ولو سمعته فقط ولم تره، لظننت انه لا يعرف لغة غيرها. اما اذا نظرت اليه لقلت ما قاله صديق اميركي عنه: «إنه ليس من نجد بل هو جنتلمان انجليزي بني اللونA Brown English gentleman . رغم ما في العبارة من عنصرية اميركية، بالتركيز على اللون كأساس لملامح الشخصية إلا ان نقطته الرئيسية واضحة، وهي ان صديقي اضافة الى نجديته بدا مثل رجل انجليزي مهذب.

كنت أحسبه سيكرر على مسامعي الكليشيهات العربية عن فان جوخ، أو عن مونيه، أو عن ملامح عامة لكثير من المدارس الفنية، لكنه تجنب كل ذلك. كنت اتوقعه ان يتوقف عند لوحة إدفارد مونش (1863 ـ 1944) المعروفة (الصرخة)، لكنه توقف عند لوحة لفنان اميركي، اندرو وايت (عالم كريستينا) لوحة لفتاة تلبس فستانا وردياً، يتعارض مع بقايا حصاد القمح بشكل لافت، تعطي للعالم ظهرها، تبدو مريضة بشلل الأطفال، ذكرتني وصديقي بحالة العجز والوحدة المفروضة على المرأة في العالم العربي رغم كل ما يلوح في الأفق من آمال. هذا الجمال المخيف بعث في نفس صديقي حزناً وبدت أكتافه مترهلة.

نعم، رأينا الكثير من اللوحات المعروفة للفنانين المعروفين، ولكن ما استوقفني في صديقي النجدي هو إلمامه بتاريخ الفن الأوروبي. وأظن أنني استطيع التميير بين ما اذا كانت تلك المعرفة نتيجة دراسته لفصل دراسي واحد أو دورة واحدة عن تاريخ الفن الغربي أم أنه جزء من ثقافة الشخص المتواصلة. كان صديقي يتحدث عن الفن رغم بعده الكامل عن تخصصه، وكأنه يُدرس مادة الفن في إحدى الجامعات.

وأثناء الغداء، بدا صديقي متواصلاً مع من حوله في سلاسة عجيبة، وأدار حواراً بفرنسية رائعة مع مجموعة كانت تجلس من حولنا، وفاجأني امتلاكه لناصية الفرنسية بنفس الدرجة التي يلقي بها الشعر النبطي النجدي، أو لهجته اللندنية عندما يتحدث الانجليزية. قال لي إنه يتحدث الفارسية ايضاً.

صديقي من الرياض، ليس فرداً.. لكنه جزء من جيل مستنير منفتح على الثقافة العالمية، ينهل منها دونما خوف أو فزع، يتحدث الفرنسية والانجليزية وينتقل كما راقص إلى لغة أهل نجد دونما تعثر.

وفي الوقت الذي يرتجف فيه كثيرون من ارهاصات العولمة و«الغزو الثقافي»، جاءت حالة صديقي معاكسة، أو انها «غزو ثقافي» مضاد. حالة فتية واثقة من ان جذورها ضاربة في الثقافة العربية، ولا تخشى الانفتاح على الآخر. هذه الثقة الحضارية هي التي جعلت المسلمين والعرب أكثر انفتاحاً وهم في أوج حضارتهم في الأندلس. أما نحن الآن فنرتعد خوفاً من الغرب.. ليس لأن الغرب خطر، ولكن لأننا حضارة مهزوزة تملك قليلاً من الثقة بمنظومتها الفكرية والاخلاقية.

واذا كنا نتحدث عن جيل قادم في العالم العربي، فإن صديقي النجدي، وجيله بارقة أمل، ودعامة ثقة، واضاءة وسط جو قاتم وغائم، وهو كذلك مدعاة لأن يغير أهالي الوديان رؤيتهم لأهالي الصحراء. ففي الصحارى نبت كالصبار المفعم بالماء، والأمل والمفاجأة معاً! وفي صورة خلدونية، ربما يأتي البناء عندما تغزو عصبية الصحراء المدن التي ترهلت، ليقوم نظام عربي جديد، متماسك ودائم، يرتوي من نبع تراث عربي صاف، وينهل من الآخرين دون خوف.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون