رحيل آخر عمالقة التحرر العربي

TT

بغياب القائد الفلسطيني والزعيم العربي الكبير الرئيس ياسر عرفات، تكون حركة التحرر الوطني العربية قد ودعت آخر عمالقتها، الذي قام خلال نصف قرن بدور بارز ومؤثر في مسيرتها الكفاحية، بل استطاع أن يحفر على صفحات تاريخها الحديث بصمات - المرحلة الفلسطينية- بكل ميزاتها وانتصاراتها وكبواتها، والتي جمعت في توجهها الفكري والسياسي كل الميراث القومي العربي ومعظم تياراته من القومي الى الأممي الى الاسلامي في حركة تحررية ساحتها الرئيسية فلسطين، وانتماؤها قومي وجذرها مغروس في قلب حركة التحرر الوطني بجناحيها المحلي والأممي.

خلال أربعة عقود شكلت حركة المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات عنوان النضال العربي، وحولت مهمة تحرير فلسطين وانتزاع حق تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة القضية المركزية للعرب عموماً في كافة أقطارهم، حيث وجدت مكانها في برامج الأحزاب والمنظمات وفي دساتير الأنظمة والحكومات وفي أجنده جامعة الدول العربية ومؤسساتها، وكانت المسألة الأولى والوحيدة التي لم يكن دعمها واسنادها والتعاطف معها مجال خلاف واختلاف بين السلطة والمعارضة، بين الأممي والقومي، بين الديني والعلماني، بين الديمقراطي والليبرالي، بين الثوري والمحافظ، بين الانظمة الملكية والجمهورية، كما أن حركة التحرر الوطني الفلسطينية وعمودها الفقري حركة «فتح»، التي أسسها وقادها ياسر عرفات، دشنت نهجا متجدداً في الحركة القومية العربية والقت بثقلها في ميدان الاجتهادات النظرية والقضايا الاستراتيجية والتكتيك وأولوية المهام وفرز الصديق من العدو، وتحديد المكونات الاجتماعية والطبقية، وتوظيف الطاقات الوطنية لتحقيق الهدف الرئيسي، وسبل الاطلالة على قوى الثورة العالمية التي كانت منظومة الدول الاشتراكية وقوتها الاساسية الاتحاد السوفياتي (في حينه) تتصدرها عند اندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة.

وفي المجال العربي وإزاء محاولات الأنظمة مصادرة القرار السياسي الفلسطيني والمتاجرة بقدسية القضية الفلسطينية، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والتي كانت بمثابة اطار جبهوي يجمع كل القوى والتيارات الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، بكل قوة أمام التدخلات العربية الرسمية تحت ظل شعار - الحفاظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل ـ وقد كلف ذلك غالياَ وأهدر الطاقات والأرواح، وخلق العداوات والصراعات التي ما زلنا نشاهد آثارها حتى اليوم.

خلال مراحل النهوض الفلسطيني في - أواسط ستينيات القرن الماضي- تحولت الحركة التحررية الوطنية الفلسطينية الى مركز استقطاب لكافة قوى التحرر، وخلال وجودها في الساحة اللبنانية بشكل خاص، وبالاستناد على حلفائه في الحركة الوطنية اللبنانية، أصبح ياسر عرفات مع رفاق دربه في مختلف الفصائل، مرجعية ثورية نضالية في الشرق الأوسط لجميع المناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية، وملجأ لمعظم قوى المعارضة في المنطقة من عرب وكرد وترك وإيرانيين ومن أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يكن الاستقطاب الفلسطيني ماديا بحتا، بل لاسباب روحية وفكرية أخرى، ومن اهمها الاندفاع نحو الاستفادة من التجربة الفلسطينية في النضال السياسي والكفاح العسكري، وابداعات قادتها ومنظريها في مجال تطوير اساليب كفاح حركات التحرر الوطني، وبناء الجبهات والتحالفات والعلاقات الاممية ومسائل الصراع الطبقي والموقف منها.

منذ أواسط ستينات القرن الماضي وتماشيا مع نهجنا الوطني الديمقراطي وموقفنا المحسوم تجاه الحركة التحررية العربية والصداقة الكردية ـ العربية، خاصة بعد انعطافة الخامس من آب عام 1965 وتبلور خطنا كنهج يساري ملتزم، بدأنا بإطلاق مبادرة جادة في الانفتاح على قوى التحرر العربية، وبدأنا بحركة - فتح - في سورية وقيادتها التاريخية تباعاً، وبقادة الفصائل الأخرى التي تحولت الى لبنان بعد أحداث الاردن. لم نجد صعوبة في طرح قضيتنا وتوضيحها على الجانب الفلسطيني فحسب، بل انغمرنا بأسعد اللحظات وأزكى المشاعر الانسانية والنضالية عندما كنا نتحاور مع أي مناضل فلسطيني، قائداً كان أم كادراً أم فدائيا، سياسياً أو عكسرياً لا فرق. فمن جهة كنا نفاجأ بمواقف أممية ديمقراطية مفعمة بحرارة - التلاحم الكفاحي- ومن الجهة الأخرى نلمس أن المقابل على دراية شبه كاملة ـ بتفاصيل القضية الكردية في الأجزاء الاربعة ومدركاً لابعادها الوطنية والاقليمية والدولية، ومتعاطفاً مع ارادة الشعب الكردي في انتزاع حقه بتقرير المصير. حينذاك ادركنا أن الشعب الفلسطيني من - نوع آخر- وفي أيدي قيادة مناضلة أمينة على المبادئ، وقد اثبتت الايام والسنين اللاحقة صدق توقعاتنا حيث وصلت العلاقات الكردية ـ الفلسطينية الى اوجها، وتعزز التعاون والتضامن المشترك، وما زالت علاقات الصداقة تتواصل، وتوجها ياسر عرفات بعد وصوله الى ارض الوطن برعايته لاقامة جمعية الصداقة الفلسطينية - الكردية في رام الله عام 1999 كأول جمعية صداقة عربية مع الكرد.

سأبقى احتفظ بأصدق المشاعر الانسانية وأطيب الذكريات تجاه الصديق الذي تواصلت معه لأكثر من ثلاثة عقود، وقضيت معه ايام حصار بيروت، والرجل الذي تكرم ومنحني أرفع وسام فلسطيني وهو: «درع الثورة الفلسطينية» في بداية الثمانينات، وساهم في بناء ورعاية علاقات مبدئية صادقة مع الحركة الكردية في سورية والعراق وتركيا وايران، وظل اميناً على مبادئ الصداقة العربية الكردية ووفياً لتاريخنا المشترك منذ ان كان قائداً وثائراً وزعيماً وبعد أن اصبح رئيساً وحتى أواخر ايامه الحزينة، وليس لي إلا أن أنحني تكريما أمام قدره المحتوم ووفاء لذكرى هذا الصديق الكبير.

* سياسي كردي كانت له علاقة وثيقة بعرفات

وغيره من الزعماء الفلسطينيين في لبنان