لتكن «البعثية» تهمة.. ولكن

TT

في فبراير (شباط) 1983 حشدت القوات الإيرانية جهدا كبيرا لمحاولة الاختراق لاحتلال حقول نفط محافظة ميسان والسيطرة على المحافظة، وأسست القيادة المشتركة العليا للجيش والباسداران مقرا متقدما على مقربة من الحدود، تجمع فيه القادة الكبار، محسن رضائي وصياد شيرازي، وحصلت الاستخبارات العراقية على تسجيل مصور للقاء مثير في ذلك المقر قبيل بدء الهجوم ووزعته على دول عربية، فقد بدأ قارئ يرتدي زي الباسداران يستحضر بصوت شجي قصة استشهاد الحسين، ووصل إلى الذروة بقوله: «لعن الله أمة قتلتك»، فما علاقة الحدث بهجوم مدبر واسع يستهدف احتلال أرض عراقية؟

على أي حال، هجموا وكانت الاستخبارات، التي أظهر الفريق الدعويّ «المصغر» الحاكم حقدا كبيرا عليها بحكم مركَّب النقص، تحصي أنفاسهم كالعادة، وأعدت القيادة العسكرية لهم ما يلزم، ففشل هجومهم وعللوا السبب بوجود «آفة» بينهم تنقل الأخبار، وفعلا كانت هناك «آفات».

هذا الترديد الموروث عن الأمة الملعونة يقودنا إلى ترديدٍ خميني (صدام كافر والبعث كافر)، ويوصلنا إلى استنتاج أن تهمة «البعثية» ما هي إلا عبارة مستعارة من خارج نطاق الأمة المعنية والحدود، يراد بها التغطية على مقصد آخر يستهدف القوى الوطنية الرافضة للمشروع الطائفي والتبعية لولاية الفقيه، لكن أصحاب هذا المشروع ليسوا إلا أفرادا وجماعات تستوحي أفكارها من منبع التفرقة الرئيسي لا غير.

حقيقة الحال، والحقيقة هنا تختلف عن عادة تكرار هذه الكلمة في أحاديث بعض السياسيين الحاليين الذين يبدأون كلامهم بها أو بـ«أولا» ويتوقف العد التسلسلي، أن استعداء البعثيين بات سخيفا وجعل البعثيين يتمسكون بهويتهم ووجودهم وحتى بقيادتهم، ولو سنح لهم لجعلوا من مرقد صدام مزارا لملايين العراقيين والعرب ردا على السياسات الخاطئة، وقد يحصل ذلك مستقبلا.

ليس من المنطق الخلاف على إقامة نظام سياسي في العراق يختلف عن التوجهات السابقة، لكن، يجب قبل كل شيء حماية النظام الجديد من النعرات المتخلفة والثأرية، فالثأر بموروثه المتراكم تجدّد بتصرفات المتحكمين بسياسة الحكم الجديد، وهذا يقود البلد إلى دوامة الثأر والثأر المقابل، وما المساحة الديمقراطية المتاحة حاليا إلا مفروضة بأحكام التدخل الغربي أولا ثم المعطيات على الأرض، وإلا لحدثت مضاعفات أكثر فظاعة من تصرفات الفئويين الذين ستفرض المتغيرات إخضاعهم للمساءلة.

النظام السابق له ما له وعليه ما عليه، والحال تنطبق على النظام الحالي، ولكل حالة خصوصياتها وظروفها، ففساد اليوم في كل المجالات لم يشهد النظام السابق نسبة ضئيلة منه، والأصوات الصادقة التي تطالب اليوم بالعدل (الديمقراطية) سطرت مواقف مماثلة قبل التغيير، ولم تعمم النقد على الجميع، بل على المفاصل المنحرفة عن حتميات العدل والإنصاف، وقد شهدتُ النظام الجديد ولم أجد ما يمكن أن أوجه به نقدا مثلا إلى نائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي، لأنه اتبع سياسة متوازنة يفترض استمرارها، ولم تسمع منه كلمات مما يكيله فريق الحكم الدعوي، كما أن الرئيس طالباني تعامل مع الناس بطريقة تختلف كليا عن نهج المالكي، ولم تظهر عنده عقد التعامل مع البعثيين بصرف النظر عما تفرضه أحيانا مواقف طارئة.

من يعتقد أن صدام كان أداة بيد الخليج لشن حرب على إيران يجهل أبسط قواعد فهم الشخصية البشرية، وعندما اتخذ الخليج موقفه حيال الحرب فإنما وقف إلى جانب العراق كله، وكان قدر العراقيين تحمل ما تحملوه، وبعد 27 عاما عاد العراقيون إلى الاستماع إلى أغنية «هيه يا أهل العمارة» التي انتشرت بعد أحداث الفكة على موبايلات الجنوب أكثر من أي مكان، وهي الأنشودة التي تتحدث عن صد الهجمات العدوانية الخمينية على حدود ميسان في حينه.

لست بعثيا «الآن» ولم أكن من محبي الاجتماعات، لكن، ولغرض طي صفحات الماضي الممتد رجعيا من «أمس»، لا بد من تبني العدل قياسا على كل الفترة لا على أسس مجزأة، فالنظام الحالي لا يمتلك حصانة، ولم تعط السماء حصانة لغير العدل، ويمكن أن تكون «البعثية» تهمة شريطة تطبيقها أيضا على مسؤولين في الحكم الحالي، خصوصا ممارسات فريق الحكم الدعوي.

فلتُفرغ المعتقلات من النزلاء الأبرياء، ولتوقف جريمة اضطرار ذويهم إلى بيع حاجات بيوتهم لتقديم أثمانها إلى المفسدين للبحث «فقط» عن مصير أبنائهم، فلم يبق لديهم غير دمائهم فلا تجبروهم على مواقف يدفع إليها الاضطرار، ولتُعَد هيبة العراق بوقف التبعية والخنوع أمام المتحجرين في الشرق، وبعد ذلك يجري الاختيار بين التجريم الشامل والصلح العام الذي لا طريق غيره للاستقرار.

أما أن يقال إن هذا كان بعثيا بالاضطرار، وذاك من طراز آخر، فهو عيب لبسه محبو التقسيمات الفئوية، ومكسورة بحظهم.