فكرت في رسالتك، ووجدت أنها مشابهة لرسائل عدة تلقيتها، مع الوقت. أول ما خطر لي، رغم قدم الموضوع، ليتها كانت مختلفة ولو قليلا. لكن لكثرة ما استخدمت من تعابير مكررة، بدت منقولة عن رسالة كتبت منذ مائة عام. أخشى أنها بداية غير طيبة. الذي يأتي إلى هذه المهنة يجب أن يحب اللغة. لغته هو. أما «أدلى دلوه» فجملة مستهلكة جاءت إلينا من أيام الآبار. فلماذا ليس، بكل بساطة، «أدلى برأيه»، أو «عبر عن موقفه»، أو عندما حان دوره قال «اسمحوا لي أن أقول»؟..
لماذا «أدلى بدلوه»؟ ولماذا نكرر منذ خمسة قرون «أحاط الشمس حريق قرمزي هائل»؟ صحيح أنه تعبير رائع، لكنه صار مملا. وكذلك «أشعة القمر الفضية». حاول، ببساطة، «ضوء القمر». جرب «أطل القمر برقة كما تطل أمي بعد غياب». ولماذا وجه حبيبتك كالقمر أو «كالتفاحة»، وليس «وجه حبيبتي كوجه حبيبتي»؟ ليس هناك خطأ في أن يكون وجه حبيبتك كالقمر. الخطأ أن كل من حمل قلما، سبقك إلى ذلك، وليس من المعقول أن تكون امرأة واحدة لجميع الكتاب في جميع العصور. دع تعابير سواك لصاحبها. لا تسرع، ولا تستسهل، ولا ترمي كل ما سمعت وما قرأت في مقال واحد. إنك في نهاية الأمر ترسم لوحة بسيطة تحمل توقيعك وأسلوبك ومشاعرك، فكيف تعبر عنها بلغة سواك؟
هل رأيت مرة لوحة جميلة وقد حشرت فيها أشياء لا ضرورة لها؟ هل رأيت رسما للشانزليزيه وفيه مدفع وثلاثة حمير وكومة من القش؟
اللغة لا تقبل الكسل وترفض الملل. التكرار ملل. أن تغير القواعد، فهذا خطأ واعتداء. أن تكتب بتعابير القزويني فهذا أسوأ. إنه إهمال. التعلق باللغة لا يعني «التمسك» «بالكليشيه». أكبر عدو للصحافة هو «الكليشيه». لاحظ كيف تنفر عندما تجد أن كاتبا لم يعثر إلا على تعبير من الجاهلية لكي يعبر عن موقف في عام 2010. ينصحونك في كليات الآداب والإعلام أن تقرأ الكتاب القدامى، من أجل أن تنمي لغتك وتصفو نفسك، وتتعلم من تراثهم. وليس من أجل أن تنقل عنهم. ولا من أجل أن تكرر النقل. وهذه الآفة ليست عربية بل هي جرثومة ظهرت في كل اللغات، لذلك حاربها في فرنسا، مثلا، بروست، شهير كتابها. وعندما تخلى همنغواي عن النقل أصبح أشهر كتاب أميركا. وأغرق فولكنر في التفاصيل، لكنه لم يغرق في النقل والتكرار. كلما تعمق الكاتب في اللغة وجب أن يبدو حديثا. كتب نجيب محفوظ بلغة الأصمعي ولكن بأسلوبه، وإلا لما بان أمام الأصمعي في شيء.