حتى لا يظل النفط نقمة

TT

منذ أن أصبح النفط أهم مصادر الدخل في العراق وبلدان الخليج، اختار العراقيون طريقا جعل منه نقمة كبرى، واختار الخليجيون طريقة جعلت منه نعمة. مع النفط ظهرت عندنا الدولة التوتاليتارية وعسكرة المجتمع والحروب. موارد النفط الهائلة التي تراكمت في ميزانية العراق منذ السبعينات خلقت انتفاخا مزيفا وغرورا جعلنا لا نقبل بأقل من مقارعة الإمبريالية وتحرير فلسطين وزعامة الأمة العربية. مع مطلع القرن الحالي صار العراق واحدا من أفقر بلدان المنطقة وقد أهدرت أمواله الهائلة في الحروب والنزاعات والمغامرات غير المحسوبة، وبدلا من هزيمة الإمبريالية دخل جنودها إلى مهجع الزعيم، وبدلا من تحرير فلسطين صار على العراقيين تحرير بلدهم، وبدلا من زعامة الأمة العربية صار العراق بلدا معزولا عن محيطه. الخليجيون لم يتحدثوا عن مقارعة الإمبريالية ولم يعدونا بتحرير فلسطين ولا تطلعوا إلى زعامة الأمة العربية، واليوم فإن جميع بلدان الخليج ضمن قائمة أعلى الدخول الفردية في العالم وما بني من بنى تحتية ومؤسسات ومشاريع قد جعلت الخليج واحدة من أكثر المناطق ديناميكية من الناحية الاقتصادية. باختصار أن النفط يخلق نوعين من الدول، دول الشعارات كعراق صدام، وإيران نجاد، وليبيا القذافي، وفنزويلا شافيز، ودول الرفاهية كدول الخليج العربية.

مشكلة النفط أنه يغري الدولة بالاستغناء عن المجتمع، وتلك هي محنة الدولة الريعية. ففلسفة العلاقة بين الدولة والمجتمع في البلدان التي تمول خزينتها من قبل دافعي الضرائب تقوم على أساس توزيع للحقوق والواجبات تضطر فيه الدولة إلى خدمة مموليها الذين هم في نفس الوقت ناخبو حكومتها وبالتالي مانحوها التفويض لـ«خدمتهم»، وهي بالتالي مأسورة بعلاقة مصدرها مصلحة المواطن وكلمته العليا (نظريا على الأقل). في البلدان الريعية تنقلب الحالة مع شعور الدولة أنها ليست بحاجة للمجتمع عبر هيمنتها على عوائد النفط المستخرجة من باطن الأرض، بل ومع انقلاب العلاقة إلى اعتماد المجتمع شبه الكلي على الدولة لتمويل خدماته ونشاطه الاقتصادي، وعند هذا المفصل يظهر الفارق الأساسي بين دولة تحسن التصرف بعائداتها وبين دولة تسيء التصرف، ورغم أهمية عوامل أخرى مثل الموقع الجيوسياسي وطبيعة التكوين الديموغرافي ومدى هشاشة أو متانة الهوية المجتمعية، فإن إغراء إساءة التصرف في الدولة الريعية كبير لأنه مرتبط بعدم شعور السلطة السياسية بالحاجة إلى المجتمع، بل وبشعورها بأنها سيدة لهذا المجتمع من خلال تحكمها شبه المطلق بالموارد وبعملية توزيعها، الكارثة الأكبر هي عندما يصل هذا الإغراء حدوده القصوى عند زعامة آيديولوجية تقيم شرعيتها على خطاب ثوري، وبالتالي على شعارات كبرى لا تولي أي أهمية لقضايا «صغيرة» مثل التعليم والصحة والإسكان والضمان الاجتماعي، بل هي مشغولة بقضاياها الكبرى بحيث تكرس عوائد هائلة لحروب مستقبلية ولتمويل مجموعات ومعارك خارجية ومواجهة «الخونة» في الداخل.

إن الإغراء السلطوي للدولة الريعية ليس من السهل مقاومته، وأسوأ نتائجه تهميش المجتمع وتبعيته للسلطة بوصفها المتحكم برزقه وموارده، وبالتالي فقدان المجتمع وأفراده لأي شرعية في محاسبة ومسائلة تلك السلطة، ومن هنا شاعت في الخطاب الإعلامي الرسمي العراقي منذ الثمانينات كلمة «المكرمة» لوصف أي زيادة في رواتب الموظفين أو أي قرار حكومي فيه منفعة للناس، والفكرة الكامنة وراء هذا الخطاب هي أن الدولة تمثل المالك الشرعي للنفط ولها حق التصرف به دون أي مساءلة أو محاسبة، وتحديد طريقة توزيع عوائده على الناس الذين لا يمكن أن يكونوا سوى متلقين سلبيين، ووجود ثانوي على هامش الوجود الكلي المتضخم للدولة. ولكن عندما تكون التجربة بمرارة ما شهده العراق، فإن مقاومة تضخم وانفجار الدولة الريعية بات ضرورة لمستقبل أفضل، فالصراع الجاري في العراق بكل ما يحفل به من عنف وتدمير ومن تدخل خارجي هو في الأصل صراع للهيمنة على الدولة لاغتنامها والسيطرة على مواردها الهائلة، وبالتالي للتحكم في عملية التوزيع التي من شأنها إعادة تشكيل المجتمع وتقسيمه الطبقي واتجاهاته، وبالتالي مستقبله، تلك السلطة الهائلة التي تمتلكها الدولة الريعية هي أكبر خطر على مستقبل بلد تتنازعه الآيديولوجيات والضغائن والمصالح الخارجية.

البناء الدستوري المؤسساتي ضروري لتقنين سيطرة النخبة السياسية ولتحصين الدولة من صراع الجماعات، لكنه ليس بكاف لوحده، كما أثبتت تجربة السنوات الأخيرة عندما استبدلت بالهيمنة الأحادية عملية محاصصة يتقاسم فيها الفرقاء - الشركاء جزءا من مغانم الدولة الريعية ويديرون عملية توزيعها، ورغم أن ذلك خدم الحاجة إلى عدم حصول تمركز للموارد، فإنه أيضا سمح بوجود آليات غير رسمية وغير مؤسساتية لتوظيف وتسريب المال الريعي دون التأسيس لفلسفة جديدة لعلاقة المجتمع بالسلطة في الدولة الريعية. كما أننا شهدنا إعادة إنتاج لعلاقة الاعتماد المطلق للمجتمع على الدولة عبر آلية التوظيف الحكومي، ففي غياب قطاع خاص فاعل ونشط وبنية تحتية ملائمة صار مصدر الرزق الأساسي لمعظم العوائل العراقية هو مرتبات أبنائها الموظفين في الدولة، وصار هدف التعيين الحكومي هاجس أي شاب أو شابة، لأنه الطريقة الوحيدة التي تضمن دخلا مستقرا يمكن على أساسه وضع الخطط المستقبلية للأفراد، وهنا انتهينا إلى امتلاك جهاز بيروقراطي متضخم وبطالة مقنعة ومؤسسات مترهلة غير منتجة، في الوقت الذي لا يوجد فيه ما يشي بأن الطلب على العمل الحكومي سيتراجع، ولا توجد أي سياسة مستقبلية لتشجيع قطاعات بديلة لاستيعاب العمالة، بل هناك تعويل شبه مطلق على موارد النفط وزيادتها، وهو تعويل قد ينتهي إلى نتائج كارثية إذا ما تراجعت أسعار النفط بشكل دراماتيكي، وحتى إن لم تتراجع يظل السؤال مطروحا: كيف يمكن تحويل ملايين الموظفين الذين يوجدون بلا عمل حقيقي في بيروقراطيات مترهلة وغير كفؤة إلى منتجين في دولة بحاجة ماسة إلى إعادة بناء نفسها. الدولة الريعية تتوفر على إغراء تجاهل هذا السؤال ما دامت قادرة على استخراج النفط وبيعه.

إن هناك حاجة لنقض الفكرة التقليدية بأن النفط ملك للدولة، وطرح فكرة أن النفط ملك للمجتمع بأفراده، ومثل هذه الفكرة لا تتجسد عمليا من خلال الشعارات، بل عبر التنفيذ لمشاريع وبرامج هدفها خلق شراكة مادية حقيقية للأفراد، بغض النظر عن انتماءاتهم وميولهم وأعراقهم وطوائفهم، وتأسيس مشاريع منتجة زراعية أو صناعية هدفها خلق عائد بديل يتحول إلى أسهم يمتلكها كل فرد عراقي، وبهذه الطريقة يمكننا أن ننقذ الدولة من إغراء الريع، وننقذ المجتمع من هيمنة الدولة، ونضع لبنة أساسية لفهم آخر للمواطنة.