درس لأوباما

TT

في يونيو (حزيران) 2008، قبل تعالي دوي الانهيارات الاقتصادية ببضعة شهور، سألت اثنين من الرأسماليين الأذكياء، تصادف أنهما كانا من أعضاء الحزب الجمهوري، بشأن مستقبل الاقتصاد الأميركي الذي بدا متقلقلا.

وعلى خلاف التوقعات التقليدية التي كانت سائدة آنذاك، طرح أحدهما توقعا مظلما على درجة كبيرة من الدقة، حيث استفاض في شرح أسباب اعتقاده أن المصارف ستتداعى وستنهار الاستثمارات، وأن الحكومة الفيدرالية ستضطر إلى إنفاق «300 مليار دولار على الأقل» لتقديم إعانات لإنقاذ المؤسسات المالية. وأنصت الخبير المالي الآخر بحرص، ثم احتسى رشفة من شرابه وابتسم قائلا «ذلك سيبدو توقيتا رائعا للديمقراطيين كي يسيطروا على السلطة».

ولم يأت هذا القول لإعجابه بسياسات الحزب الديمقراطي، وإنما لمجرد رغبته في تحميل الطرف الآخر المسؤولية عندما تبدأ الأوضاع في الانهيار. وأشك في أن صديقي يراوده القدر نفسه من الدهشة الذي يراود آخرين حيال المصاعب التي واجهت الديمقراطيين في الانتخابات الخاصة المتعلقة بمجلس الشيوخ في ماساشوستس أخيرا. وكثيرا ما طرأ هذا التبادل للأدوار على ذهني وأنا أشاهد أوباما والديمقراطيين يناضلون في مواجهة المزاج المشاكس الذي يتسم به الأميركيون بوجه عام حاليا، وهو أمر يمكن تفهم أسبابه. ورغم أن التراجع الاقتصادي بدأ في عهد الرئيس بوش، فإن الحزب الموجود في السلطة هو الذي يعاني من التداعيات عندما تزداد الأمور سوءا على نحو ملموس.

وراء الكثير من التحليلات السياسية الدائرة حول المواجهة الانتخابية في ماساشوستس التي انتهت بفوز الجمهوريين، يكمن نقاش حول أسباب انحسار شعبية أوباما من الذروة التي كانت بلغتها في الربيع الماضي.

في المقابل، يرد أنصار أوباما بأن معدلات تأييده تعد صحية تماما في ضوء معدل البطالة الذي يتجاوز 10% والانهيار غير المسبوق للثروات الشخصية.

ويرى أبناء هذا الفريق أن تركيز المحافظين على الآيديولوجية يشكل محاولة من جانبهم لانتهاز الفرص وتشتيت الانتباه بعيدا عن الأخطاء التي شهدتها سنوات بوش في الرئاسة والدور الذي قامت به السياسات المحافظة في الوصول بنا إلى ما نحن عليه الآن. في الواقع إن الإشارة إلى الآيديولوجية بدلا من الظروف الاقتصادية في تفسير نتائج الاستطلاعات أشبه بتحليل أسباب الحرب الأهلية دونما إشارة إلى العبودية أو صعود «الاتفاق الجديد» من دون ذكر «الكساد الكبير».

من غير المثير للدهشة أنني أميل باتجاه المجموعة الثانية من التفسيرات، وآمل أن يتحلى أصدقائي المحافظون بالقدر نفسه من الصدق الذي أبداه الرأسمالي الجمهوري في اعترافه بأن تولي الرئاسة في الحقب السيئة يضر بالحزب الذي يتولى القيادة. لكن ينبغي أن يشكل نجاح الخطاب المحافظ مصدر قلق لليبراليين وإدارة أوباما. ورغم أن الكثير من الأميركيين يدركون أن الكارثة الاقتصادية التي حلت بنا بدأت فصولها قبل تولي أوباما الرئاسة، فإن الكثيرين يشعرون بالضيق، خاصة ذوي التوجهات السياسية المستقلة، حيال إنفاق الحكومة مثل هذه الأموال الضخمة وعدم تحسن الأمور بالسرعة التي كانوا يأملونها.

من المثير للانتباه أيضا أن غالبية المحافظين، عبر أسلوب يمكن وصفه بوقاحة الوقاحة، تصرفوا وكأنه لا شيء يعيب مطلقا نظرياتهم الاقتصادية. ويتحدثون ويتصرفون وكأنهم لا شأن لهم مطلقا بالعجوزات الضخمة التي يتحسرون عليها الآن، ويزعمون أنه يمكن إنقاذ كل شيء إذا ما عاودنا تطبيق السياسات ذاتها التي علينا الآن إسقاطها من حساباتنا.

أما الاستثناءات القليلة لهذه القاعدة، أمثال بروس بارليت وريتشارد بوسنر، اللذين تميزا بالشجاعة الكافية لتأليف كتابين أعربا خلالهما عن أفكارهما المنشقة، فيجدون أنفسهم معزولين عن الحركة المحافظة. إلا أن الحقيقة التي يتعين على الليبراليين وأوباما التعامل معها أنهم فشلوا حتى الآن في سبر أغوار الخطاب اليميني، خاصة أمام أعين المعتدلين والمستقلين الذين لا يبدون ميلا قويا لأي من جانبي هذا الصراع.

من ناحيتهم، يعزي أنصار الرئيس أنفسهم بأن نسبة تأييد أوباما في استطلاعات الرأي ستتحسن مع تحسن الظروف الاقتصادية، الأمر الذي يعد نمطا من الخنوع الثقافي. يذكر أن مستوى تأييد رونالد ريغان تراجع خلال فترة انحسار اقتصادي أيضا. لكن حتى في حالة التراجع، عمد ريغان إلى إرساء أسس نقد الليبرالية على نحو ترك أصداءه لفترة طويلة بعد رحيله عن منصبه.

ولن تصل العناصر التقدمية إلى المكانة البارزة التي تأملها داخل الولايات المتحدة إلا إذا عمدت إلى طرح نقدها للتوجهات المحافظة، الأمر الذي تجلت أهميته في التنافس الانتخابي الذي كان دائرا أخيرا في ماساشوستس.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»