العلم والعمل

TT

فيما كنت أكتب المقالة الماضية لأنادي بتبني العلم والتعليم بدلا من أوهام الحرب والضرب، وصلتني هذه الصورة من صديقي الدكتور ليث الكندي لهذه الطفلة السورية (7 سنوات) التي جلست على قارعة الطريق تبيع الحلوى من صينية وضعتها على قفص قديم، وانكبت في أثناء ذلك على كتابة واجباتها المدرسية على دفتر في حضنها.

وزعت وكالة الأنباء السورية هذه الصورة تحت عنوان «العلم والعمل»، ونالت بها جائزة اتحاد وكالات الأنباء العربية لأفضل صورة من عام 2007. الجميل في الصورة أنها عفوية تماما كما استدل من وضعية الطفلة. يقول مصورها، وسيم خير بيك، إنها رفضت مرارا أن تسمح له بتصويرها واضطر إلى الابتعاد عنها وأخذ الصورة في غفلة منها بالزوم من مسافة 30 مترا، فهي بوضوح ليست صورة مفتعلة أو مخرجة.

يا ليتني أستطيع وضع تلك الصورة في هذا العمود بدلا من كل كلامي هذا. هزتني هذه الصورة تماما وأحيت إيماني بمستقبل أمتنا العربية. طالما كان لدينا أطفال من هذه النوعية، حريصون على التعلم والعمل، فنحن في خير. أمعنت النظر فيها وتأملت، أولا إن الصورة لطفلة أنثى وليس ذكرا، ثانيا إنها جلست على الرصيف لوحدها من دون أهلها أو أحد يشرف عليها أو يحرسها، وقد لبست معطفا شتويا سميكا أحمر وحذاء ثقيلا مما يدل على أنها كانت تقوم بعملها في طقس بارد تحملته بصبر وجلادة، ولكنها كانت رافعة الرأس، لم يفرض عليها أحد أن تضع حجابا أو تلف شعرها بكوفية، جلست القرفصاء على عادة العرب، مسكت القلم بيدها الصغيرة ولكن بقوة وعزيمة ظاهرة، والصبية وسيمة الوجه بديعة التقاسيم ولها شعر كستنائي جميل، ورغم بعد الصورة، فيمكن للناظر أن يرى فيها مخلوقا منكبا على التفكير العميق والتركيز على مهمة الدرس بحرص وأمل.

كل ما في هذه الصورة يعبر عن كل ما ينبغي أن نصبو إليه ونعمل من أجله، نلمس فيها تحرر المرأة والمساواة بين الذكور والإناث، والحرص على التعلم والقضاء على الأمية، والاعتماد على النفس بالعمل الجاد، والإنتاجية والتنمية الاقتصادية، سيادة الأمن والحياة السلمية، وخلو المحيط والجدران من معالم العنف والشعارات السياسية الفارغة، كل شيء نظيف وخال من السلاح والدمار والرايات.

لم يذكروا اسم الصبية، وهذه التفاتة مشكورة، يكفينا التشدق بالأسماء والبطولات، يا ليتهم عملوا تمثالا لهذه الصبية يوضع في أكبر ساحة عامة، بدلا من نصب الجندي المجهول، فليكن عندنا نصب التلميذ المجهول، نخرج للاحتفال به سنويا في بداية كل عام دراسي، فيمر أمامه رئيس الدولة والوزراء وكبار رجال الدين وكل المعلمين وطلبة المدارس في استعراض مهيب، يحيون النصب التذكاري ويضعون أكاليل الزهور تحت أقدامه.

إنه أملنا الوحيد في النهوض والانتصار واللحاق بالمدنية في إطار العلم والعقلانية والعلمانية والحرية.