الإشكالية المسيحية: هاجس الحزام الإسلامي

TT

كان فارس الخوري رئيسا للحكومة الوطنية السورية، عندما نالت سورية الاستقلال في منتصف أربعينات القرن الماضي. كان الرجل من الجيل القومي العربي الأول الذي قاد النضال من أجل الحرية والاستقلال. كان فارس الخوري عَلَمَا من أعلام الثقافة القانونية والأدبية. ومن حق العرب والسوريين أن يفاخروا بأن مسيحيهم الأكبر شارك في صياغة ميثاق الأمم المتحدة.

دمشق مدينة محافظة، مهما تقلبت العهود والأنظمة السياسية عليها يمينا ويسارا. وعندما رأى مشايخها الدينيون ضرورة بناء مسجد يشكل حزاما إسلاميا في القصّاع المسيحي العريق، ضرب فارس الخوري مثالا في السمو الوطني والقومي، فوق العصبية الدينية. تبرع الرجل الكبير مجانا بأرض يملكها هناك، لإقامة المسجد عليها.

رَحَلَتْ سنين الصفاء الديني والانسجام الاجتماعي. جاءت سنين الأحزمة المتزمتة والناسفة. لم أصدِّق عينيَّ، وأنا أقرأ الشيخ علي الطنطاوي، قبل رحيله هو الآخر. كتب يقول إنه يفضل أن يصافح مسلما إندونيسياً، على مصافحة المسيحي فارس الخوري أو الدرزي عارف النكدي القاضي والإداري الكبير الذي كان مضرب المثل في النزاهة.

مات الشيخ الطنطاوي، وفي قلبه ويده حرقة. فلم يجد من مائتي مليون مسلم إندونيسي أحدا منهم يصافحه على بعد ألوف الكيلومترات. الطنطاوي رجل دين سوري مشهور. كان قاضيا شرعيا ممتازا. أديبا شاعريا. خطيبا بليغا. محدِّثا إذاعيا وتلفزيونيا جذابا. قادرا على ممارسة تأثير تلقيني كبير على جماهير المؤمنين.

وللطنطاوي طرائف تُذْكَر. فقد شارك في جَمْعٍ كبير من رجال الدين. ذهب الوفد إلى المشير حسني الزعيم ليطالبه بأسلمة انقلابه ونظامه (1949). ذهل الوفد عندما راح الدكتاتور النزق يَعُدُّهم، واحدا واحدا، بإصبعه الوسطى. ثم رفع سماعة الهاتف، ليأمر بصوت مسموع جلادي سجن المزة، لإعداد «قاووش» مناسب لخمسين رجلا. من حسن حظ الطنطاوي ومشايخه أن الزعيم أُعدم، قبل أن ينقلهم إلى الإقامة في «الفندق» الشهير.

الدكتاتور أديب الشيشكلي أذكى من سلفه الأرعن. عندما ذهب الطنطاوي مع مشايخ الدين إلى الشيشكلي مطالبين بأسلمة الإذاعة السورية، فرش لهم بساطا في قاعة الإذاعة، مشترطا عليهم أن يحضروا جميعا يوميا، لمراقبة البرامج. حضروا جميعا في اليوم الأول. ثم بدأوا يتخلفون الواحد بعد الآخر، مفضلين تلقين المؤمنين في المسجد، على حزمهم بحزام الرقابة من الإذاعة.

إذا كانت دمشق والمدن السورية الكبيرة محافظة، فالمبادرة السياسية كانت في أيدي الأقلية النافذة: جيل قومي جديد من الشباب والطلبة والمثقفين سار بسياسة سورية، وربما المنطقة من اليمين إلى اليسار. وعلى هذه الموجة، فرض هذا الجيل على جمال عبد الناصر الوحدة مع سورية. كان هناك تخوف مسيحي سوري من «إسلامية» عبد الناصر وخلفيته الإخوانية. من الشائعات الظالمة للرجل، أنه عندما عرف أن العقيد نوفل شحم قائد الجبهة السورية مسيحي، أمر بتغييره.

أيضا، رَحَلَتْ سنين. جاءت سنين. كنت في أوائل الثمانينات في إحدى زياراتي الصحافية للمغرب. بعد رحلة شاقة إلى ميدان الحرب في الصحراء المغربية، مع الجنرال أحمد دليمي وزير الدفاع آنذاك، عدت إلى الرباط راغبا في لقاء المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي. استمتعت بجلسة استغرقت ساعات مع العروي في منزله.

المغرب العربي لا ينطوي على أي «حوض» مسيحي.

من هنا، كان المفكرون المغاربة أكثر تحررا في اتهامهم زعماء الأحزاب القومية «العلمانية» في المشرق (ميشيل عفلق. أنطون سعادة. جورج حبش)، بأن مسيحيتهم كانت وراء تأسيسهم أحزابا «معادية» للإسلام. لم يقل لي العروي ذلك صراحة، إنما لمّح بذكاء شديد.

في زمن التزمت الديني المعادي لحرية التفكير والثقافة، من الصعب الدفاع عن «رهبان» القومية الثلاثة. إنما أستطيع القول إن الحافز لهم لم يكن طائفيا بحتا، كانت هناك رغبة جارفة لديهم في إقامة دولة عربية حديثة، تؤمن بالمبدأ الأول لدولة الحداثة، مبدأ المساواة في الوطنية.

الجيل القومي الأول حَيَّد بذكاء رجال الدين. منعهم من العمل السياسي. لكن استعان بهم، عند الحاجة، لشحذ هِمَمِ المواطنين في النضال ضد الاستعمار. الجيل القومي الثاني (جيل عفلق. سعادة. حبش) لجأ إلى إعلاء شأن القومية. لكن كونهم مسيحيين هو الذي أدى إلى اتهامهم بالطائفية لدى مفكري المغاربة. وشاركتهم في ذلك الحركات الدينية المسيَّسة وفي مقدمتها الحركة الإخوانية. الواقع، كان هناك صراع خَفِيّ بين التراث الديني الذي يعتبر المسيحيين «أهل ذمة» تجب على المسلمين حمايتهم، كرعايا لا كمواطنين، ومفهوم المساواة في دولة الحداثة الذي ساوى بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات. مسيحية «رهبان» القومية الثلاثة كانت تعبيرا عن رفض 17 مليون مسيحي في العالم العربي اعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية.

لجأ عفلق وحبش إلى الرومانسية القومية لدمج مسيحيي المشرق في العمل السياسي. اختار عفلق شريكا «علمانيا» له من أسرة دينية عريقة (صلاح الدين البيطار) في تأسيس حزب سياسي «علماني». جورج حبش أوغل في «تحصين» علمانيته بماركسية شديدة الحمرة متجاوزا العروبة الرومانسية.

وحده، أنطون سعادة تجاوز العروبة والإسلام، إلى التفكير بتشكيل حوض حداثي إقليمي (الهلال الخصيب في المشرق العربي)، على أساس فاشي، مستلهما الفاشية الأوروبية التي بهرته في ذروة «عطائها» المروِّع الذي أشعل أكثر حروب التاريخ دموية ودمارا.

لا أومن بأن هناك «شعوبا» عربية. أومن بأن هناك أمة عربية ذات مجتمعات شديدة التعاطف مع بعضها بعضا، لكن تنطوي على خصوصيات محلية بيئية وجغرافية. هذه الخصوصيات تم تصعيدها إلى الظن الواهم بأنها تشكل مكوِّنات لدول أو شعوب مختلفة.

يحلو للكتاب السوريين القوميين اتهامي بأني «سوري قومي» مطرود من الحزب. الواقع أني كنت، في مراهقتي، أتردد على مقارِّ البعثيين، والإخوان المسلمين، والسوريين القوميين، لكي أسمع وأستزيد معرفة بالحركات السياسية الآيديولوجية التي ميزت سورية الأربعينات والخمسينات بحيويتها. كان مأخذي على السوريين القوميين تأييدهم الحار لدكتاتورية الشيشكلي المناصر، خفيةً، لهم.

إنما أعترف أني الآن أستعير من فاشية أنطون سعادة فكرة «الأحواض». أراد سعادة من الهلال الخصيب (العراق. سورية. لبنان. الأردن. فلسطين)، ونجمته قبرص أن يكون، عمليا وواقعيا، حوضا إقليميا للمسيحية المشرقية الناكرة لعروبة عريضة في عرض الوطن العربي (12 مليون كيلومتر مربع).

أريد من فكرة «الأحواض» استكمال حديث اليوم، في الثلاثاء المقبل، بحديث عن خمسة أحواض مسيحية في العالم العربي، مسكونة بهاجس الخوف من أن يتحول الحزام الإسلامي الذي يلفها ويزنِّرها، إلى حزام ناسف لوجود المسيحية التاريخية في الوطن العربي، قبل ولادة الإسلام بسبعة قرون.