خواطر في المهنة وخاطر عليها

TT

لم يعِش الممثل همفري بوغارت طويلا لكن أفلامه عاشت من بعده مثل تحف كلاسيكية، بالأبيض والأسود. فقد كان عليه أن يلعب دائما دور الرجل الهادئ الرزين، الذي يمكن الاعتماد على شجاعته وخبرته معا. أحد تلك الأفلام كان «ساعة الصفر، أميركا»، ويمثل فيه دور رئيس تحرير محارب للفساد والجريمة في صحيفة «نيويورك داي».

يرفع سماعة الهاتف في مكتبه فيأتيه صوت رجل من المافيا، سائلا: «من أنت؟ من هو صاحب هذا الصوت البشع؟».

ويجيب بوغارت: «هذا صوت الصحافة يا ولد، ولن يكون في وسعك أن تفعل أي شيء حياله». كان ذلك منتصف القرن الماضي. الآن، في العقد الأول من هذا القرن، الصحافة هي التي لا تستطيع أن تفعل شيئا حيال نفسها ومستقبلها. تلك الصحف الكبرى حول العالم، التي لم تغلق في الحروب العالمية وفي أزمات الركود العظيم، وفي كل ما مر من عقود، تغلق دورها الآن إلى غير عودة. القراء ينخفض عددهم باستمرار، والإعلان ينخفض على نحو مريع. وفي هذه الدائرة المفرغة تضطر الصحافة إلى التوفير، فيغيب المراسل البارز، ويغيب التحقيق الجذاب، ويغيب التحليل والمقابلة، فيغيب القارئ والإعلان. العام 1969 ذهبت إلى أيرلندا ورأيت، للمرة الأولى، أهمية الإعلان المبوب كمصدر للدخل. فقد كانت مكاتب تلقي الإعلانات المبوبة قائمة على مدخل مباني الصحف الكبرى. ورأيت الإعلان الصغير يشكل رديفا، وأحيانا بدلا، للإعلان الكبير. وعدت إلى بيروت وفي ظني أنني أنقل فكرة جديدة إلى «النهار»، فوجدت الأسطوري غسان تويني قد فتح مكاتب جديدة على مدخل المبنى لذوي الإعلانات المبوبة.

فقدت الصحافة الكبرى حول العالم نحو 40% من دخلها من الإعلان المبوب. وصدرت في بيروت صحف مجانية اختصاصها هذا النوع من الإعلان، لكن ليس فيها أي نوع آخر من الصحافة. وفي باريس ولندن توزع صحيفة «مترو» مجانا في كل مكان، وفيها بعض الأخبار، وبعض المقتطفات، وبعض الوصفات، ولا علاقة لها بأي جهد صحافي. والصحف التي لم تغلق كليا حتى الآن بدأت التوفير بإلغاء صفحات العلوم والبحوث والعرض الأدبي المعمق. وقد كانت «الهيرالد تريبيون» إلى عقود طويلة أهم وأمتع وأغلى صحيفة حول العالم. لكن الآن جل ما تقرأه في «التريبيون» الصادرة في باريس اليوم هو ما نشر في «نيويورك تايمز» في نيويورك أمس. وقد غيرت صحف بريطانيا وفرنسا أحجامها وأشكالها وطبيعة محتواها، لكنّ عددا كبيرا منها لا يزال مهددا بالسقوط. حاولت الصحف الرزينة الالتقاء مع الصحف الصاخبة، وليس العكس. ومع ذلك لا حل. عصورنا تأفل، مُثلنا تتغير، ولا حل، لا في الصحافة ولا في غيرها. وعبثا نفترض أو نحاول. نحن أصوات من الماضي، وقد أصبح لدى الأجيال الطالعة مجهولا مثل المستقبل. وكنا قبلا نغني، كل على ليلاه. وأصبحنا نغني، كل على دنياه.