كيف أكتب عن الذي لا أعرفه!

TT

جلست أكمل مذكراتي العاطفية على أن تنشر بعد وفاتي. فوجدت أمامي عدة مشاكل: فأنا الذي أكتب اليوم لست نفس الشخص الذي عاش وعايش وتعذب وتوجع وأوجع. لست ذلك البلبل الذي يغرد كل يوم على غصن شجرة توت أو شجرة بلوط. الذي كان يلهث بين شوارع روما وباريس وبرلين والقاهرة. لا أعرف كيف كنت أواصل الليل والنهار فلا تعب ولا طعام ولا شراب. ذلك الذي يغمس كلمة في قلبه في كبده.. وكيف يتحول الدم إلى حبر. وكيف الحبر يضيء ليلا ونهارا..

لم أعرف التعب ولا الأرق ولا النوم ولا الندم.. من هذا الذي كان؟ وكيف صار الذي هو أنا؟ من هذا الذي يجري ويلعب ويغني ويطرب الآخرين؟.. كيف أكتب اليوم عن الذي لا أعرف؟.. كيف أتحدث بلسان واحد آخر؟.. أنا لم أكن واحدا. وإنما كنت كثيرين. هل كذبت على أحد. يعلم الله أنني لم أكذب. لم أقل لواحدة فقط: أنا أحبك.. بل قلتها كثيرا جدا. لم أكذب. ولم أعد واحدة بما لم أستطع الوفاء به.

أما لماذا معظمهن من الأجانب.. فليس عن اختيار.. إنما الصدف والقدر. وهي الدماء الأجنبية في عروقي: فرنسية تركية. ليس هذا وإنما هي نزوة الشباب في ذلك الوقت..

لا أنسى واحدة.. إنها درست الفلسفة مثلي.. وتتكلم عدة لغات مثلي.. بسرعة تفاهمنا. بسرعة قفزت إلى ما لا يخطر على بالي. تريد أن نتزوج. إلا هذا. وإلا هذه. إنها فكرة مجنونة جاءت في وقت غير مناسب. أنا أؤكد أنه غير مناسب. فقد كنت في أول حياتي الأدبية. وليست لي قيمة في بلدي. كيف أكون هكذا وأتزوج من أحببت؟ وكيف تقبل هي - الجميلة بنت الأكابر - أن تتزوج ممن لا قيمة له؟.. حاولت هي وحاولت أيضا.. ووجدتني أنحني أمام البابا يوحنا الثالث والعشرين إنه أحد أقاربها. وباركها وباركني، دعا لنا بالسعادة! ولكني لا قيمة لي. لا أساوي شيئا. وقلت: لا.. وندمت وعضضت أصابع يدي وحاولت أن أعض أصابع قدمي. وقلت: لا.. وكانت هذه الكلمة حبل مشنقة لكل مشاعري.. حاولت أن أحتوي المعنى والتاريخ وما كان وما أصابني وأصاب الدنيا من حولي. لم أستطع. ووضعت هذه النقطة. وتوقفت عن افتعال تاريخ مضى ومضيت معه!