«البدر» وشجرة القات

TT

هي الصدفة، وحدها، التي أتاحت لي الاطلاع على «قصة» وردت في كتاب لصحافي عربي، كي أتأمّل فيها طويلا..

كتب ذلك الصحافي يقول: (وبعد وفاة الإمام أحمد (إمام اليمن) خلفه ابنه محمد البدر الذي كان أبوه يستخدمه دائما في البعثات التي يوفدها إلى مصر. وكان عبد الناصر محتارا في أمر البدر. وكان يتساءل ما إذا كان في وسع البدر أن ينقل اليمن إلى العالم الحديث. وظلّ يتعجّب ويتساءل إلى أن طلب الأمير البدر ذات يوم - وكان لا يزال وليا للعهد - أن يزور حديقة الحيوان في القاهرة.

وذهب البدر يرافقه وفد رسمي إلى حديقة الحيوان، حيث سار كل شيء على ما يرام إلى أن اكتشف البدر شجرة «قات»، لم يتبيّنها أحد غيره. فهرع، وصعد إليها وجلس على غصن منها وأخذ يمضغ «القات». وبعد أن سمع عبد الناصر بهذه الواقعة لم يعد يتساءل عن طاقات البدر أو قدراته).

استوقفتني هذه الرواية وأنا أتناولها تحليلا عبر ألف وجه ووجه.

لم يكن كاتب هذه (القصة) صحافيا ساخرا اعتاد على أن يستعين بإضافات «فكهة» مليحة كي يصل من خلالها إلى قلوب قارئيه، بل إن كاتبها صحافي جاد، لغته كالسيف القاطع، وله قراؤه الكثيرون.

ولأنها حكاية تثير العجب والغضب، كان لا بد من التساؤل: هل يجوز التسليم بصدق هذه الرواية، قناعة بحجم كاتبها، صاحب الرأي الذي لا يُفند، والقول الذي لا يُرَدْ، أم يتعين إعمال العقل، تأملا هادئا بها، للوقوف على وجه الحقيقة فيها؟

كان واضحا أن الكاتب يريد أن يتحدّث عن الإمام البدر، رحمه الله، بما يشينه، ويحط من قدره. فله رؤيته فيه. على أن هناك من وسائل التشهير والإقلال من شأن العباد ألف وسيلة ووسيلة لمن أراد أن يركب هذا المركب الكريه.

كان في وسع الكاتب أن يقول، مثلا، عن الإمام البدر «إنه لو قدر له أن يحكم لما كان خيرا من أبيه. وأنه سليل أسرة عرفت بقسوتها على العباد، ووريث لحاكم ذي عقل جاهلي مُتحجّر، فظ في مخاطبته لخصومه، صارم في معاملته لأعدائه. أغلق أبواب الحياة المُتحضّرة على اليمن وحكم كما يحكم الطغاة القساة». فقول كهذا يظل رأيا قد تختلف بشأنه المواقف. كما أنه يأتي في سياقه الطبيعي والحملة ماضية على أشدها تبريرا للثورة على الإمامة، تشهيرا «بسوءاتها وتاريخها الظلامي في حكم اليمن».

إلا أن ما جاء في الكتاب يتحدّث عن (واقعة) ولا يتحدّث عن رأي فيه أخذ وعطاء.

أنا أفهم أن ينهال الكاتب على الإمامة والإمام تشهيرا بهما، تبريرا للانقلاب العسكري عليهما، وهو الذي ساند تدخلا عسكريا سيئ العاقبة في اليمن. فقد تحدّث عن الإمام أحمد بما طاب له من حديث، ثم استدار نحو الإمام البدر لينسب إليه واقعة ينكرها كل ذي عقل سوي.

لم يكن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله - على خلاف ما ذكره الكاتب - في حاجة لأن يتعرّف على الإمام البدر، وقد جمعهما العمل العربي المشترك لسنوات طويلة. فوسائل الإعلام المصرية مليئة بالشواهد على ما كان بين الرجلين من لقاءات. ولا تنسى جماهير دمشق يوم أن وقف على شرفة دار الضيافة فيها، وأيديهم متشابكة، كل من الرئيس عبد الناصر، والأمير البدر، ولي عهد اليمن، والرئيس العراقي عبد السلام عارف يلهبون مشاعر الجماهير بالحديث عن حدث قومي كبير. ثم انقلبت وسائل الإعلام على البدر كي «تجرّده من كل ما كان ساترا لعوراته ونقائصه»، وهو الذي كان ليوم واحد من الانقلاب عليه ذلك القومي العربي الذي حيّته، وكرّمته، وأثنت على مواقفه وسائل الإعلام في القاهرة.

ولا بأس في ذلك، فقد اعتادت الشعوب العربية على إعلام يكتسي لون الأمزجة، والصراعات، ورغبات الأنظمة الحاكمة في ما تريد وفي ما لا تريد.

يراد لنا أن نصدّق أن رجلا راشدا، وليا للعهد، مارس السياسة وخالط السياسيين، كان في زيارة رسمية، مصحوبا بوفد رسمي، وقعت عيناه، فجأة، على شجرة «قات» لم يتبيّنها غيره، فجردته من هيبته، وجردته من وقاره، وانفلت عن الوفد الرسمي المرافق (ليهرع)، نحو الشجرة كالمأخوذ، وليستقر على غصن من أغصانها، يمضغ نبات القات تماما كما تفعل القردة في الغابات!!

وهل كان الكاتب ليعدل عن إيراد هذه (القصة) لو علم أن شجرة القات، دائمة التقليم، نبتة قليلة الارتفاع، ضعيفة البنية، لا تقوى أغصانها على حمل رجل بقامة، وثقل الأمير البدر؟ وأنها تزرع عادة على المرتفعات الجبلية والهضاب الرطبة المرتفعة 800 متر عن سطح البحر، وأنها لا تزرع في حدائق الحيوان في مصر؟ وأن البدر لا يعجز عن تأمين حاجته من القات وهو في جناحه الخاص في القاهرة، وفي وسعه أن يأتي به لو أراد حتى في حقيبة سفارته الدبلوماسية؟ وأن الاستقرار على غصن الشجرة لا يستقيم مع طقوس جلسات تخزين القات ومضغه كما اعتاد عليها الأئمة في اليمن؟

لا أعتقد ذلك.

فهذه الحقائق تظل، في رؤية الكاتب لها، جزئية لا يعنى بها قدر عنايته بإقناع القارئ بهذه (الواقعة) المشينة. فهو مُصِر على أن يصعد بالبدر إلى شجرة القات في حديقة الحيوان في القاهرة، ويجلسه على غصن من أغصانها ويمضغه القات!

والآفة هنا ليست الغلو في التشهير، بل الآفة في الجرأة على القارئ، والاستخفاف به.

فهي جرأة تساندها ثقة جامحة في النفس، وقناعة لدى الكاتب أن لا أحد في موقف القادر على التشكيك في صدق ما يقول!

وهي استخفاف بالقارئ العربي، وقد ملأوا، عبر العشرات من السنين، ذاكرته بحشو من الأكاذيب، وظلوا يطلبون إليه باسم الوطنيّة، أن يصدق الإفك والبُهتان.

وبعد،،،

لست في كل ما تقدّم في معرض الدفاع عن الإمام البدر. فليس هناك من يأسف لزوال حكم الإمامة عن اليمن. ولأن الإحاطة برؤية الكاتب للإمام البدر هي المدخل لفهم ولادة هذه «القصة» كان لا بد من تناول تلك الرؤية في سياقها التاريخي.

وحكاية البدر وشجرة القات ليست إلا واحدة من حكايا الاستخفاف بالقارئ العربي، وانعدام الخوف منه، والغلو في سفاهة القول عندما يكون الحديث عن الخصوم. وما قيل عن الإمام البدر، بعد الانقلاب عليه، قيل أكثر منه عن زعامات عربية أخرى، أصيلة المنبت، عالية المقام، عربية الهوى والنضال، تاريخها ثري بالتضحيات. إلا أنها عجزت عن دفع التطاول بالأذى وقد لفها صمت القبور..

ومما ساعد على تفشي آفة الجرأة على التاريخ اختلال التوازن في القدرة الإعلامية لدى المتحدّثين في التاريخ. فهناك أذرع إعلامية مدها واسع، قلمها ساطع، والمفتونون بها كثيرون. وهناك، في المقابل، أذرع إعلامية مدها متواضع، لديها ما تقول، لكنها تخشى المواجهة مع الأقدرين! لتظل في موقف المتفرّج العاجز.

كانت أعوام الستينات من القرن الماضي أعوام التوتر في العلاقات العربية العربية، وأعوام المرحلة التي سبقت وأعقبت كارثة 5 يونيو (حزيران) 1967، وأعوام الانفلات في المسلك الإعلامي. وكنت واحدا من ذوي الظنون الحسنة الذين اعتقدوا أن كارثة 5 يونيو وما أعقبها من زلزال سياسي، وهزّة مُدمّرة لكل قناعاتنا القومية ستدفع بذوي الأقلام الجامحة الجارحة لمراجعة صادقة مع النفس، ومحاسبتها على عهد جعلوا منه، على الأمة العربية، عهدا كئيبا، وهم في سعي متواصل لإقناع الإنسان العربي بصدق ما كانوا يكتبون. وأن يكون في تلك المراجعة توبة نصوح. ويبدو أنه قد كتب على الإنسان العربي أن يظل ضحية جرأتهم على التاريخ، وإيهامه بموضوعية ما يقولون، وتجردهم عن آفة الهوى عندما تطغى على البصر والبصيرة.

فقد كُتِبَتْ هذه الرواية في نهاية عام 1971م.

كنتُ بحكم طبيعة عملي، أتابع الأحداث الكبرى في العالم العربي بكل تفاصيلها، وأرصد منها ما يحمل دلالات تاريخية مهمة، رَصْدَ المُراقِب المُحايد الذي لا يحمله الحدث، يوما، لموقف قد يندم عليه. وقد أخذنا بهذه الرؤية، وحاولنا العمل بها من سياسة الهدوء، والتعالي، والبعد عن الانفعال في مواجهة الأحداث، التي عرف بها الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله. لذلك ظلّ الغلو في الخصومة، والتشهير الكريه، والقول غير المنضبط غائبا في الموقف السعودي من الأحداث.

من هنا تجيء الدهشة مما حملته تلك السطور من (قصة) حادة المذاق، عسيرة على الهضم، جارحة للبلعوم!

لو أن صحافيا غربيا أتى بمثل هذه «القصة» لسقط وسقطت معه صحيفته. فالصحافي الغربي يهاب القارئ، يحترم ذكاءه، ولا يجرؤ على الاستخفاف بهذا الذكاء. وكثيرا ما تخوض الصحافة الغربية في الشؤون الخاصة للدول والناس، خوضا يكشف العورة، ويفضح المستور، فلا يثير الأمر استياء لدى القراء، ما بقيت الصحيفة ملتزمة بإيراد الوقائع صادقة دون اختلاق.

ولكم أسقطت الصحافة الغربية رؤساء دول، ووزراء، وحكومات في كشفها لمخالفات دستورية خطيرة مخلة بالقسم الجليل، والصدق والأمانة في مواجهة الأمة، فلقيت مساندة شعبية تعزز من سعي الصحافة دفاعا عن المصالح العليا للوطن.

وبعد، يظل التساؤل حائرا: هل، حقا، رويت هذه القصة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر؟. وهل، حقا، صدقها الرئيس؟

* وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية