التجسس على الزبالة

TT

قرأت عن سيدة فرنسية سبق لها أن درست العربية وهي في أواسط السبعينات من عمرها واسمها إيمانويل، وزارت القاهرة كسائحة عام 1971 وشاهدت الآثار، وتجولت في الأحياء القديمة حتى وصلت إلى منطقة في جنوب القاهرة، وهي مستقر لأربعة آلاف «زبّال» ويعيش هؤلاء في أكواخ من غرفة واحدة وبلا نوافذ.

ومما قرأته عن ذلك الجو: أنه في الثالثة صباحا ينهض مئات الرجال والأولاد فيشدون حميرهم إلى عربات خشبية ويتوجهون إلى المدينة لجمع قمامتها، وما أن تحل الظهيرة حتى يقفلوا عائدين ليفرغوا حمولتهم، ليمحّصوها جاهدين علهم ينقذون أشياء يمكنهم بيعها أو إصلاحها أو إطعامها لحيواناتهم. أما ما تبقى فيترك ليتعفن أو يحرق في نار داخنة من غير لهب.

هذه المرأة تأثرت بما شاهدته فقررت أن تحط رحالها هناك وتعيش معهم في نفس بيئتهم مضحية بحياة الحضارة في فرنسا، وسكنت في غرفة بنتها من الخشب والصفيح، وفي البداية لم يرحبوا بها وأخذوا يتهكمون عليها، بل إن بعض الصبية لم يتورعوا على رجمها أحيانا بالحجارة، ولكنها بالصبر واللين والابتسامة استطاعت أن تكسب ودّهم، وأصبحت ما إن تستيقظ كل صباح حتى يتسلق الأولاد الحفاة الأنقاض والزجاج المتكسر ليحيوها ممسكين بأطراف ثوبها ومتشبثين بيديها. «ازيّكم؟» تسألهم وقد أشرق وجهها بابتسامته الواسعة المعهودة. وتمتد ذراعاها لتضما بضعة أجساد صغيرة. وتطل النساء من مداخل أكواخهن وينادينها: «يا أبلة!» (أي يا أختي الكبرى). فتحيي كلا منهن بعربية طلقة وتسأل عن عائلاتهن وتقدم كلمة عزاء إذا ما ألمّ بأحد مرض وكلمة تهنئة صادقة على أي إنجاز تحقق. واقتنعت جاراتها أن ينظفن أرضا خالية، واستطاعت بمساعدة بعض الرجال أن تصنع من أقفاص خشبية قديمة مقاعد وطاولات، وطلبت من جمعية خيرية منحة متواضعة، شيدت بها فصلا خشبيا، واشترت بالباقي أقلاما وأوراقا، وبدأت بتعليم 12 طفلا جعلتهم في حضانتها. وركزت خطوتها التالية على النساء، فبعد أن تقفل الروضة تفتح صفا لكل اللواتي يرغبن في تعلم الخياطة والحياكة والحبك (كروشيه). وهن ترددن في البداية، لكن سبعين امرأة ثابرن على حضور صفوف بعد الظهر. بل إن بعضا منهن أتقنّ استعمال آلة الخياطة، وهي هدية قدمتها صديقة سويسرية، وبدأن يعملن بالأجرة فيكسبن دخلا إضافيا واحتراما جديدا للذات.

وفي المساء بدأت تعطي دروسا في محو الأمية للرجال.

وتقول إن أجمل يوم في حياتها عندما اعترف مسؤول حكومي بجهودها وقدم شهادات محو الأمية إلى 36 زبالا، تمكن الكثير منهم بتدبير أعمال لهم أفضل في القاهرة، وبعدهم تعلم مئات الرجال.

وكتبت لممثل برنامج الأمم المتحدة في القاهرة بطلب منحة، واستطاعت أن تحصل عليها واشترت بها (أتوبيسا) قديما، كانت كل أسبوع تأخذ فيه مجموعة من الأطفال إلى البحر الذي يشاهدونه لأول مرّة، أو (الملاهي) التي يدخلونها لأول مرة. وأخذت تبعث بالرسائل للمنظمات الإنسانية العالمية ولأصدقائها، وسافرت لدول كثيرة وألقت المحاضرات، وانهالت عليها التبرعات التي بواسطتها استطاعت أن تفتح روضة نموذجية للأطفال من عدّة أدوار، ومستوصفا يزوره مئات المراجعين أسبوعيا، ومستشفى للولادة، وعيادة لطب الأسنان، ومعهدا مهنيا لتعلم الحرف اليدوية استفاد منه مئات الشباب والشابات. وكانت (إيمانويل) تعمل 18 ساعة في اليوم لمراقبة العمل. وفي الثمانينات وأثناء رحلاتها الخارجية لجمع المزيد من التبرعات أصيبت بذات الرئة، وبينما كانت في المستشفى أوصت بأن تدفن في منطقة أصدقائها الزبالين. ولكنني علمت أن وصيتها لم تنفذ لأن البعض اتهمها بالجاسوسية والتبشير، مع أنه لا يعنيها ذلك، ولم يتنصر لا رجل ولا امرأة ولا طفل.

ثم على إيه تتجسس يا حسرة؟!

على «الزبالة أو الزبالين»؟! عجبى!!

[email protected]