التنمية بين الحدية والنسبية

TT

واكبت العولمة ثورة في المعلومات، تجاوزت حدود الدول وكسرت الحواجز، بل إنها اخترقت حدود الزمان والمكان عبر طفرة الاتصالات، مما أدى إلى حصول التخمة المعلوماتية. غير أن تلك المعلومات تحمل في طياتها الغث والسمين، وتنطوي على الصحيح والزائف، وتجمع البسيط والمعقد، وتشمل الأخلاقي وغير الأخلاقي.. بل أكثر من ذلك.

ولا بد أن يندس تحت بريق العولمة الشكلي تثقيف آيديولوجي، وتتسرب خلالها قيم ثقافية معينة. وهذا ما يجعل من الواجب على المثقف في بيئتنا إعمال أكبر قدر ممكن من قدراته في الفرز والانتقاء والفحص والتمحيص لما تبثه الوسائط المختلفة، ثم بعد ذلك يكون النقد والتقويم. باختصار، إن هذا التدفق المعلوماتي يقتضي توظيف الفكر وتطوير النقد واستغلال تلك الثورة المعلوماتية، بما يخدم المعرفة ويرفع من مستوى الوعي ويحقق التنمية، بعيدا عن الاستخدام المخل لتلك الوسائط لتجذير الصراع الثقافي والتصنيف، الذي يفرز المجتمع على أسس آيديولوجية.

في مثل تلك الظروف، يرى كل طرف أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، وأن من خالفه لا يملك منها شيئا.

في هذا الخطاب الحدي (المطلق) يرى البعض أن السبيل إلى النهضة، في اتباع الخطوات التي سارت عليها أوربا إبان عصر التنوير، فيما يرى البعض الآخر أن السبيل يكمن في تطبيق ما كان في عصر النبوة. كأن الزمان لم يتغير. ومع أننا أمة وسط في دينها ودنياها، فإن الخطاب الثقافي الحدي هو المسيطر لدينا.

خطاب حدي: إما ليبرالي منفلت أو ماضوي منغلق.. أو أو. ثنائيات حادة غير موجودة بالضرورة لدى الأغلبية الصامتة. كل طرف ينبذ بها الطرف المغاير له. أسهم ذلك في تفتيت الجهود وإبطاء مسيرة التنمية، في ظل خطاب تصادمي متعصب، يتنافى مع طبيعة العمل الفكري الحر والنزيه، ومع أخلاقيات الحوار وآدابه. وقد أدت هذه الحالة غير الصحية للخطاب الثقافي لدينا إلى مراوحة غير واقعية بين صانعي هذا الخطاب، وتبادل المواقع. للحفاظ على الحياة أو جذب الضوء، وأحيانا لاستقطاب الجماهير.

في ظل هذه الموجة العاتية من التحولات، يسيس الجهد الثقافي، ويصبح العمل الفكري المحض آيديولوجيا مصبوغة بألوان زاهية.. ومن الطبيعي أن تتعذر في جو كهذا إثارة قضايا جديدة، أو تقديم منظورات متجددة لإشكاليات تنموية قائمة. وينحصر الجهد في إثبات صحة مقولات يعتقد صاحبها أنها صحيحة مطلقة، ويكرس جهوده لزيادة مصداقيتها في الواقع الاجتماعي والسياسي، هدفه إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر. كل فريق يتعامل مع المجتمع بمبضع الجراح، فيبتر ما ليس متسقا مع إطاره الفكري، ويضخم ما يرى فيه تصديقا لمقولات نظرية يؤمن بها.

وهكذا نسير في حلقة مفرغة من الصراع الحدي المعيق للتنمية. فنحن أحوج ما نكون إلى نسق فكري جديد يقوم على النسبية في النظر إلى القضايا التنموية بعيدا عن النظرة الحدية (المطلقة). وحين نصل إلى هذه المرحلة، سنطمئن بإذن الله على مسيرتنا التنموية ومشروعنا الحضاري، حيث يسير في الطريق الصحيح.