سنوات الجفاف في العراق

TT

كانت نعمة المياه السبب الرئيسي لنشوء وتطور وازدهار حضارة العراق القديمة، والثروة الأساسية التي فرضت منذ القدم مركزية الدولة بغرض إدارتها، وتطلبت تطوير تشريعات وقوانين لاستخدامها وحمايتها، أهمها ما ضمته مسلة حمورابي قبل نحو أربعة آلاف سنة من مفاهيم تعتبر حتى اللحظة مفاهيم متقدمة وقفزة كبرى في التشريع وقوننة علاقة الإنسان بهذا المورد.

كما شهد العراق عبر تاريخه الطويل عنفا وظلما وحروبا وقساوة قل مثيلها في مناطق العالم الأخرى، تركت ندوبا كبيرة في الدولة والمجتمع، وأعاقت حركة التقدم والبناء والاستقرار في بلد يمتلك كل مقوماتها، وقد كان في كل مرة قادرا على النهوض من كبوته ليواصل رحلة الوجود إلى اليوم، وكان الماء عنصر النهضة الأساسي على الدوام. واليوم، على الرغم من فداحة المشهد العراقي المعاصر وما تعتريه من أحداث وصعوبات وكوارث، فإن المحنة تبدو أكثر مأساوية حين يدرك المرء أن مياه العراق تتقلص إلى الحد الذي تتهدد به وحدة المجتمع واستقرار الدولة.

فقد فاجأ جفاف السنوات الثلاث الأخيرة الأوساط الرسمية والشعبية في حدته، وفي ضعف استعداد البلاد على التعاطي مع الشحة الحادة في الموارد المائية لمدة طويلة، وقد كشف بوضوح هشاشة الركون إلى انتظار إرادة القدر، أو دول الجوار، أو اللجوء إلى الحلول التقليدية في معالجة الموقف في وقت انعدمت فيه القدرة على تأمين حصص المياه لأغراض الزراعة أو الشرب عبر كامل التراب الوطني، مما أدى إلى تنظيم مظاهرات للمواطنين، خاصة الفلاحين، في مناطق كثيرة من ديالى والنجف والديوانية والبصرة وغيرها، في عمل غير مسبوق، مطالبة بالحصول على المياه، وتعبيرا عن خطورة الوضع المائي الذي يهدد مصيرهم، بعد أن اعتاد السكان، وعلى مر التاريخ، على وفرة المياه في القنوات والأنهار والخزانات والأهوار، والمسطحات المائية الأخرى، ولم يبادروا، أو لم تضطرهم أوقات الشحة القصيرة التي كانت تحصل من وقت لآخر، إلى أي حلول غير تقليدية للتكيف مع حالة جفاف طويلة.

لقد تعرضت موارد البلاد المائية، منذ التسعينات، إلى تدمير متعمد، تجسد أساسا في تجفيف منطقة الأهوار العراقية، وهي المسطحات المائية الشاسعة، الدائمة والموسمية، في أرض سومر التاريخية، بدوافع سياسية قمعية وأمنية، إضافة إلى عوامل الإهمال، أو الجهل، والانشغال بظروف الحرب، واستنزاف الطاقات البشرية والمادية بها، مما أدى إلى خراب هائل في الثروة المائية والاقتصادية والحيوانية، فضلا عن المأساة الإنسانية التي أجبرت عشرات الألوف من السكان على العطش والجوع ومن ثم الموت أو النزوح، ولم تكف السنوات الماضية لإعادة ما خربته الحروب وسوء الإدارة لأسباب كثيرة كان أهمها قلة الموارد والوضع الانتقالي للبلاد وأحيانا كثيرة الوضع الأمني.

لقد كانت الأهوار العراقية مصدرا كبيرا للغذاء يغطي نحو 40% من السوق العراقية من المنتجات الحيوانية ونحو 60% من حاجة السوق من الأسماك، إضافة إلى تغطية جملة من الاحتياجات الإنسانية الأخرى، كالسكن والنقل والصناعات الحرفية الأخرى، وقبل هذا وذاك، توفير فرص لا تحصى للاستقرار الاجتماعي والعمل الحر والعيش الكريم، حتى وإن كان في أحيان كثيرة بحده الأدنى، كما كانت بالطبع موئلا للتنوع الأحيائي، وضمانا للتكاثر وإسناد سلسلة الحياة، ومحطة كبرى لهجرة ملايين الطيور سنويا، ونظاما ايكولوجيا فريدا من نوعه في منطقة صحراوية جافة. كما كانت أنهار العراق تفيض في الربيع وتجلب معها الخير والطمي، وتتجدد حيوية التربة وتنتشر الخضرة وتتكاثر الأحياء الموسمية وتملأ الخزانات والشطوط والأهوار.

ولكن تزامن وجود سلطة الجهل البيئي في العراق، مع واقع إقليمي معقد، على الصعد الجغرافية والمناخية، والسياسية، والأمنية، خلق أرضية خصبة انتعشت بها أحلام الهيمنة والابتزاز في دول المنطقة، خاصة تلك التي تتقاسم نهري الفرات ودجلة، فأقيمت منشآت كبرى في دول الجوار، جعلتها تتحكم بمجاري المياه وإطلاقاتها. فالمنطقة عموما مبتلاة بصراع المصالح الدولية، والكثير من عوامل التفجر الاجتماعي والسياسي، ولكن المشهد تعقد أكثر بسبب الطبيعة الهيدرولوجية، والايكولوجية، والجغرافية للنهرين، إضافة إلى عجز العقلية الديكتاتورية الحاكمة آنذاك في العراق عن التوصل إلى حل معقول لمشكلة المياه، ببعديها الإقليمي والوطني، فلجأت السلطة، كرد فعل على تصاعد السخط الاجتماعي وضغوط الحرب مع إيران، واتساع دائرة المعارضة الشعبية لنظام الحكم آنذاك، إلى اتخاذ قرار تجفيف الأهوار العراقية التي كانت تقدر مساحتها بين 15 إلى 20 ألف كيلومتر مربع (أي نحو ضعف مساحة لبنان)، فحصلت كارثة إبادة بيئية وبشرية أدت إلى موت وتهجير وإفقار مئات الألوف من العراقيين، خاصة أولئك الذين اعتمدت حياتهم على مياه الأهوار والمقاصب في جنوب العراق.

لقد حدث نتيجة لذلك، إضافة إلى سلسلة من الأعمال الأخرى خلال الثلاثين عاما الأخيرة، تدهور مريع في نوعية البيئة العراقية، وبلغ في أكثر من موضع حدود اللارجعة، أي أن البيئة فقدت قدرتها على التكيف مع الشرط المناخي والفيزيائي، وتحطمت قواها الداخلية تحت ضغط التشويه المتعمد، وقسوة الشروط الجديدة، الناتجة عن التدخل الفض في قوانين الطبيعة، وسياسات السيطرة وتحويل المياه عن مجاريها الطبيعية، مضافا إليها دمار الحروب، وشحة الموارد المالية، ونقص الطاقة الكهربائية، وسوء الإدارة، وانعدام التشريعات والقوانين التي تحمي البيئة وشبكة أنهار وقنوات العراق من التلوث، أو عدم تطبيقها إن وجدت.

فاليوم تشير أرقام المراقبة البيئية إلى ارتفاع ملموس في معدل درجات الحرارة في العراق قياسا بمعدلها قبل عشرين أو ثلاثين عاما، وتقلصت المساحات المزروعة والخضراء، وتراجعت إنتاجية الأرض إلى حد أصبح معه العراق مستوردا لنحو 70% من حاجاته من الحبوب من الخارج، بعد أن كان يتمتع بالاكتفاء الذاتي من إنتاجها، ونتج عن المغامرات والحروب والحصار الاقتصادي انتشار الفقر والمجاعة في العراق، مما جعل نحو ربع سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر حسب المسوحات المتاحة، مما أدى بالحكومة إلى المبادرة بإطلاق استراتيجيتها لتخفيف الفقر أخيرا.

إن الجفاف الأخير الذي ضرب حوضي دجلة والفرات جاء هذه المرة قاسيا، بسبب سيطرة دول الجوار على إيراداتهما، ولم يمكن للعراق إلا المناورة المحدودة بما هو متاح في سدوده من الموارد المائية الشحيحة، والتي بلغ حجم الفراغات بها رقما قياسيا لم يسجل من قبل، فالتجأت إلى تطبيق خطط هدفت إلى تقليص المساحات المزروعة بغرض تأمين مياه الشرب، والحد الأدنى مما هو مطلوب للزراعة، كما ساهمت بعض التدخلات على أعلى المستويات في تأمين إطلاقات إضافية من السدود التركية، دون التمكن من التوصل إلى حلول طويلة الأمد لمشكلة تقاسم الحصص المائية مع الجوار، ولم تكن تلك الإطلاقات كافية للحفاظ على ما تمت استعادته من مساحات الأهوار بعد عام 2003 فجفت مرة أخرى، ولا توجد في الأفق مؤشرات على قدرة العراق على استعادة الأهوار مرة ثانية، خاصة في ضوء معطيات التغير المناخي المتداولة. إنه وضع جديد لم يكن العراق مستعدا له، وإذا ما استمر الجفاف لسنة أو سنتين أخريين فسيولد خرابا كبيرا لا يمكن احتماله. على خلفية هذا الصورة، تتعدد التحديات التي يواجهها العراق، وفي مقدمتها التحدي المائي، الذي لا يقل خطورة عن التحدي السياسي والأمني، بل إنه يرتبط عضويا بهذين الملفين، وينطوي على إمكانية كبيرة للإسهام بتعزيز الأمن إذا ما نجحت الحكومة في تحقيق تنمية ريفية وزراعية تؤمن استقرار الريف والقطاع الزراعي بشكل خاص. إن الديكتاتورية السابقة، المسؤولة إلى حد كبير عن تدهور القطاعين المائي والزراعي، حاولت بقوة القمع إخفاء الوضع المأساوي لهذين القطاعين، ولكن اليوم يمكن مشاهدة الخراب وتقدير حجم الكارثة التي حلت بالبلاد، كما يمكن رصد حركية المجتمع الريفي وقدرته على المطالبة بتوفير شروط العيش الكريم. إن المشكلات التي يواجهها المجتمع الريفي في العراق أكبر من قدرته على مواجهتها دون دعم حكومي ودولي مستمر، أولا بهدف إيقاف التدهور في شروط العيش التي تجبر السكان على النزوح والهجرة إلى حواف المدن المكتظة للالتحاق بجيش العاطلين، ومن ثم العمل الجاد لتحسين مستوى المعيشة في الريف ولخلق فرص الاستقرار. إن العراق ما زال مكتنزا بعوامل النهوض، ولا يملك العراقيون إزاء مصيرهم إلا مواصلة الكفاح من أجل الاستقرار والتنمية، وتطوير برامج فاعلة لمكافحة الفقر والجوع والأمية، ومعالجة الجراح الاجتماعية، الناتجة عن ثلاثة عقود من الحروب والقمع والاضطهاد وهدر الموارد، وسيكون الميدان المائي/الزراعي ميدانا رئيسيا لكسب معركة التنمية.

* الممثل الدائم للعراق لدى منظمة الغذاء والزراعة الدولية والمنظمات الدولية الأخرى في روما