مانديلا قوة نووية

TT

مذهل هذا المانديلا، في احتفال أقامه مؤخرا، بمناسبة مرور عشرين سنة على إطلاق سراحه، وجه الدعوة لسجانه الذي غلق عليه الأبواب وكبل الأصفاد في السجن مدة 27 سنة ليحضر هذه المناسبة، التسامح المانديلاوي قوة ناعمة، لكنها نووية دك بها عروش أعدائه وخصومه، وأجبر العالم الغربي على احترامه وتبجيله وتقديره على الرغم من أن مصالحه الاقتصادية العظمى كانت آنذاك مع النظام العنصري الجنوب أفريقي. لقد أفرز الكشف التدريجي في جنوب أفريقيا في ظلّ سيادة القانون عن «حجم الجرائم» المرتكبة في العقود الماضية، كما ورد في تقرير «لجنة الحقيقة والمصالحة» ومن ذلك مثلا التجارب التي أجريت في مخابر كيميائية وحيوية بهدف القيام بحملات إبادة ضدّ السود، واستخدام السموم على نطاق واسع في الأغذية والأدوية، واللجوء إلى مواد تحدّ من المواليد السود، بل التفكير في استخدام القنابل النووية لإبادتهم ومع ذلك لم تغير هذه الحقائق المرعبة من مبادئ مانديلا التي تبناها أيام النضال السلمي وبعد تحرر جنوب أفريقيا من ربقة النظام العنصري الأبيض، واستطاع مانديلا كما أشار الزميل نبيل شبيب في مقالته في «إسلام أون لاين» أن يكسب الرهان؛ فلم تشهد جنوب أفريقيا تيّار الدماء الذي كان يلوّح به «البيض» ويخوف به العالم الغربي، كذلك لم تشهد جنوب أفريقيا الانتقام الجماعي لمئات الآلاف من ضحايا الحكم العنصري، لقد أثبت مانديلا أن «التسامح» الذي دعا إليه من البداية لم يكن مجرّد شعار مؤقّت، بل كان منهجا تبنّاه، واستطاع من خلال زعامته الشعبية أن يحدّ به الرغبة في الانتقام التي كان يمكن فهم أسبابها لو انتقلت إلى أرض الواقع.

هذه القيم العظيمة التي صدرت من عظماء التاريخ مثل التسامح والعفو عند المقدرة هي أيضا قيم إسلامية عظيمة، لكن المؤسف أن هذه القيم صارت حكرا على الأرفف نستمتع بذكرها وننتشي بترديدها، كتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التسامحي مع اليهود والنصارى، وكالعهدة العمرية الشهيرة التي أرست أعظم مبادئ حقوق الإنسان، وكتعامل صلاح الدين الأيوبي مع أعدائه الصليبيين، وغيرها من الوقائع التي يكتنز بها ديننا وموروثنا وتاريخنا المجيد، لكن حين تعصف بنا في طول العالم العربي وعرضه عاصفة تتطلب إنزال مثل هذه القيم النبيلة نجد أنفسنا تلقائيا وقد تلبستنا روح الانتقام والتشفي والمعاملة بالقسوة متترسين بنصوص نتعسف في إنزالها على هذه العواصف وننسى أو نتناسى مئات النصوص والآثار الإسلامية التي تجعل من التسامح والعفو أساسا في التعامل، والشدة والغلظة والانتقام استثناء.

والمشكل هنا أننا معشر العرب ننزع إلى نقد التوجهات العنصرية التي بدأت تبرز على الساحة الغربية مثل اليمين المتطرف الذي بدأت شمسه في صعود، ونشدد النكير، ومعنا الكثير من الحق، على طروحاتهم العنصرية التي تدعو إلى التضييق على الأقليات الإسلامية والعربية، ونستهجن، ولا لوم علينا في ذلك، شعاراتهم المعادية للإسلام والعرب، ولكننا في ذات الوقت نخالف غيرنا إلى ما نهيناهم عنه، فالشجاع عند العرب الذي تتسم لغته بالتحريض أو الدعوة إلى العنف أو إلى التشديد والقسوة في التعامل مع الغير أو التضييق عليهم، وأما التسامح الذي نشيد به حين يصدر من غيرنا، فإنه يصبح تميعا وانبطاحا إذا تعاملنا به مع غيرنا، ولو أننا فكرنا بتمعن في شأن التسامح لوجدناه السلاح الأكثر فعالية في التأثير على من يخاصمنا دينيا أو سياسيا أو آيديولوجيا، تماما كما فعل مانديلا الذي قوض بتسامحه مع خصومه أعتى عروش العنصرية في التاريخ.