الإشكالية المسيحية: الكفاح من أجل البقاء

TT

حركات الإسلام السياسي تتجاهل حقيقة تاريخية ميَّزت الوطن العربي عن سائر الأوطان. عبقرية المكان والزمان احتضنت الأديان السماوية الثلاثة، في مستطيل ضيِّق يمتد من الناصرة الفلسطينية إلى مكة العربية.

هذه الحركات عاجزة اليوم عن التمييز بين سلمية الديانة المسيحية وسلبية اليهودية. المسيحية لم تقم دولة في فلسطين. اكتفت بإنشاء كنائس في بلاد الشام. آثرت المسيحية التاريخية الهجرة، لتشكل أغلبية سكانية في عالم واسع خارج الوطن العربي.

اليهودية طردت الفلسطينيين مرتين. قبل الميلاد بألف سنة، أنشأت اليهودية دولتين يهوديتين متناحرتين. سَبَى الآشوريون والكلدان اليهود. كانت الذريعة معقولة: سمم اليهود بمناحراتهم واستفزازهم لجيرانهم أجواء المنطقة. ها هي اليهودية العنصرية (الصهيونية) تعود بعد الميلاد بألفي سنة، لتحتل أرض الفلسطينيين مرة أخرى، ولتسمم أجواء المنطقة.

بحجة السعي والجهاد لإقامة الدولة الدينية، تستهدف حركات الإسلام السياسي المسيحية كديانة وكأقلية. وتعجز عن الجهاد لاقتلاع الدولة اليهودية الجديدة.

وهكذا، فالمسيحية العربية تواجه اليوم خطر الاقتلاع، حيثما وجدت في الوطن العربي. وهي تكافح من أجل البقاء في أحواض إقامتها المحاصرة بأحزمة الغالبية الدينية. هذا الكفاح له إحدى ثلاث نهايات: الهجرة. القبول بمواطنة من الدرجة الثانية. مواجهة الاستئصال الجماعي بالحزام الناسف. كل هذه الخيارات ينطوي على خطر جسيم، ليس على المسيحيين فحسب، بل أيضا على سلام وأمن وطن عربي قد يكون محكوما في المستقبل بدول دينية منغلقة، غير مقبولة في عالم مُعَادٍ لها. أقوى منها. بل مستعد لغزوها، بحجة تهجير أو استئصال 13 مليون مسيحي عربي.

بعد سنة، سوف يختار أفارقة جنوب السودان، من مسيحيين ووثنيين، الانفصال عن السودان. المزاج النفسي والشعبي السائد في السودان يقبل بهذا الانفصال، بعدما استحال التعايش السلمي. هل يكون الانفصال سلميا وحضاريا، كما انفصل السلاف عن الجرمان مقتسمين تشيكوسلوفاكيا، أم يكون دمويا وهمجيا، كما حدث في البلقان، حيث ذبح الصرب الأرثوذكس ربع مليون مسلم؟ أغلب الظن أن المشاكل الناجمة عن الانفصال، كرسم الحدود واستغلال النفط، سوف تجدد الاشتباك بين الشمال والجنوب. بل الجنوب ذاته قد يشهد حربا أهلية بين قبائل متناحرة لا تتكلم لغة واحدة. موسم الحزن في الشمال لن يكون كبيرا. نزعة انفصال الأفارقة في الجنوب عن العرب في الشمال متأصلة منذ الاستعمار. لكن حركات الإسلام السياسي في الشمال لم تعرف كيف تُداري الجنوبيين. منذ نميري، وعد الشيخ حسن الترابي العرب باستكمال أسلمة الجنوب. عندما جاءه «المَدَد» بدده على صنع انقلاب متأسلم، بعدما ورط نميري في مشروع الدولة الدينية.

سقط نميري (1985) لكن الحرب التي تسبب بها دامت عشرين سنة. مدد عمر البشير الحرب سنتين أخريين، عملا بنصيحة الترابي الذي طمأن العرب بأن الجنوبيين سيقبلون العيش كـ«أهل ذمة» في دولته الدينية. كان جون قرنق (غارانغ) أسرع وأذكى. نادى بوحدة السودان. حالفه زعماء الشمال نكاية بالبشير. الموقف طريف: ورثة قرنق ماضون في الاستعداد لاستفتاء الانفصال. وهم يشاركون في حكم الشمال. سوف يتركون في الخرطوم حوضا مسيحيا جنوبيا مملوءا بمئات الألوف قابلا للاشتعال بحزام ناسف.

حوض آخر مسيحي غير عربي يتشكل في الخليج. ملايين العاملين الآسيويين بدأوا يطالبون بالمكتسبات الاجتماعية التي يتمتع بها العاملون العرب في أوروبا. ما زالت أمام الدولة الخليجية الفرصة لتفادي الكارثة، بإصلاح نظام استقدام العمال وتشغيلهم. مع تلقين الأجيال الخليجية الجديدة ثقافة العمل، حرصا على اللغة والثقافة العربية، وضمانا لمستقبل، بلا أقليات دينية مستورَدَة تسبب متاعب أمنية واجتماعية.

احتاج العرب إلى أربعة قرون لأسلمة مصر. اعتبر الأقباطُ العربَ محوّرين من الهيمنة الرومانية (البيزنطية) والإغريقية. تعرّب الأقباط. لكن العرب تركوا لهم حريتهم الدينية. حتى الأتراك لم يمسوا، عموما، هذا المبدأ بسوء. تقدم محمد علي بالأقباط مسافة نحو مجتمع متساوٍ في الحقوق والواجبات.

حاول الاستعمار الإيقاع بين المسلمين والأقباط. كان الرد المصري باغتيال بطرس غالي باشا رئيس الوزراء (1910). كان على الجانبين انتظار سعد زغلول لدمج الأقباط في صميم الحركة الوطنية. بعد وفاته (1927)، غدا المثقف القبطي مكرم عبيد باشا محرك السياسة المصرية على مدى خمسة عشر عاما، مؤكدا قبل عبد الناصر عروبة الأقباط.

شكك الأقباط بثورة عبد الناصر. هم اليوم يحنّون إلى عهده الذي لجم الإخوان. لكي يستعيد السادات الجامعات من الناصريين واليساريين، ألصق زبيبة التقى على الجبين. تبنى الحركات الدينية الخارجة من رحم الإخوان. غدرت هذه الحركات بالسادات، مستغلة خلافه مع الطيف السياسي المصري، وتوقيعه صلح الكامب مع إسرائيل، وغُربته عن العرب.

استعاد مبارك المبادرة من حركات الإسلام الجهادي. كسب المعركة الأمنية. أطلق سراح البابا شنودة من الدير الصحراوي الذي احتجزه السادات به، لرفض البابا الصلح مع اليهود الذين سبق أن قاتلهم ضابطا في الجيش المصري عام 1948. غير أن حركات الإسلام السياسي تمكنت من فرض ثقافة دينية متزمتة رافضة للآخر. تراجعت ثقافة التعايش المتسامح. نادى الوعاظ: لا مصافحة للأقباط. لا سلام. لا مسايرة في الطريق. في الفراغ الآيديولوجي والسياسي، وفشل التربية والتعليم، بات المصريون أكثر تزمتا. مصر بحاجة إلى شفافية الاعتراف بوجود خلل في المجتمع. هناك تصاعد في التعصب لدى المسلمين والأقباط. لعل تشكيل منتديات للحوار يشارك فيها المثقفون ورجال الدين قادرة على استعادة الثقة، وتبديد هواجس القلق والخوف لدى الأقباط. يبقى تبديد الشعور بالغبن من واجب الدولة والنظام، تشجيعا للأقباط على المشاركة السياسية، مع منحهم فرصا لعمل أوسع في الإدارة الحكومية.

الحوض المسيحي في الهلال الخصيب يعيش حلاوة حرية دينية واقتصادية في سورية. نظام الأب والابن مستمر في رعاية ملفه «الأبدي» مع الأقليات الدينية. وفي مقدمتها مسيحيو الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية. وهو بهذا الحلف يحرج الكنيسة المارونية في لبنان.

في لبنان، اللا استقرار أدى إلى هجرة مسيحية شبابية يأسا أو بحثا عن عمل. في الداخل, صعود الشيعة المسلحة يثير قلق الموارنة والسنة. لكن الزعيم الماروني ميشال عون يلعب لعبة ذكية وخطرة في آن واحد: حالف عون حزب الله. صالح سورية. زار بشار ونجاد.

في هذه اللعبة، اعتراف بتراجع الدور السياسي الماروني، مفضلا التسوية مع إيران وسورية وشيعة لبنان، معتبرا الخطر الأكبر على الوجود المسيحي يأتي من تنظيمات الإسلام السني التكفيرية والجهادية، النائمة أو الناشطة داخل وخارج المخيمات الفلسطينية. عون ينادي بدولة علمانية، من دون أن يتخلى عن مكانته كزعيم طائفي عصبي ومتعصب لمارونيته، فيما يبقى خصومه التقليديون (موارنة حزب الكتائب والقوات اللبنانية) حائرين أمام صلح الأسد والحريري.

مسيحيو الأردن أسعد حظا من مسيحيي فلسطين الذين يفضلون الهجرة. أحفاد العرب الغساسنة يتمتعون بمشاركة سياسية فاعلة. لا يحظى بها أشقاؤهم مسيحيو سورية.

الدائرة تدور على أشقائهم مسيحيي فلسطين: المضايقات الإسرائيلية لا تتوقف. السور يلف بيت لحم. اليهود يستولون على أملاك الكنائس المسيحية في القدس. القلق المسيحي كبير من الإمارة الإخوانية المتمردة في غزة.

الحوض المسيحي في العراق محزوم بالأحزمة الناسفة. إذا كان لنا عزاء للآشوريين والكلدان، فهي أن المصيبة بـ«القاعدة» حلت بالعراقيين جميعا. مرة أخرى، تثبت «القاعدة» وحركات الإسلام التكفيري والحربي خطرها على الانسجام الاجتماعي والسلم المدني في المجتمعات العربية. القتل الجماعي للشيعة بالأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة لا يلتقي مع الأخلاقية الدينية. كان الأحرى بزعماء الشيعة التخفيف من غلواء المسيرات الاستعراضية المليونية الزاحفة للأماكن المقدسة. فهي تسقط ضحية عنف إجرامي متمسح، ظلما وعدوانا، بمسوح الدين.