يفرحون في عرس غيرهم!

TT

حفلت الصحافة العربية بمقالات تقريع وشماتة برئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بعد أن تم استجوابه في لجنة التحقيق البريطانية حول حرب العراق التي أسقطت صدام حسين.

بلير أصر على عدالة وصحة موقفه في التحالف مع بوش في الحرب والدفع بالقوات البريطانية في العراق، ووقف ضد بلير بعض زملائه السابقين في الحكومة.

لا يهمّ الآن تحديد من المصيب ومن المخطئ، فبعد حصول الأحداث الكل يصبح حكيما! على طريقة «أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى»! ولو أن التدخل أو الغزو السياسي العسكري الأميركي البريطاني للعراق تم بطريقة أنجع وأفضل لما حصلت لجنة التحقيق هذه أصلا، فالنجاح له ألف أب والفشل يتيم! كما تقول العبارة الغربية الشهيرة.

الذي أغفله كثير من كتابنا وكثير من صحفنا وهي تهلل لتمريغ بلير ووضعه على منصة الاستجواب الساخنة في بريطانيا، هو السؤال عن: أين لجاننا نحن؟ وأين منصاتنا الساخنة؟

إذا أخذنا الصورة في إطارها الأكبر، وتجاوزنا حالة غزو العراق في حد ذاتها، إنما أخذنا «رحيق» القصة لا ورقها الذابل، فإننا نقف وجها لوجه أمام عيب فادح في طريقة إدارتنا وتصورنا للسياسة وطريقة تفاعلنا معها ومع أبطالها، هذه الطريقة نكررها بشكل عجيب وخالد، بل يكاد يكون متطابقا، مع كل فصل من فصول التراجيديا العربية.

في الغرب يحصل النقد بشكل تلقائي عند كل نهاية أزمة تلم بالدولة والمجتمع، من حروب وكوارث طبيعية أو فضائح سياسية كبرى تخدش أصول ومرتكزات الحياة في المجتمع، فيتم قيام لجنة مساءلة وطنية عبر البرلمان أو لجان خاصة، تجمع الوثائق وتستجوب الفاعلين، أيا كانوا، وتأخذ وقتها الكافي لذلك، ثم تخرج للجمهور بنتائج تحقيقها أو تقصيها للحقائق، وتضع كل ذلك قيد التداول العام للجمهور، يحاسب من يحاسب، يعترف من يعترف، ينكر من ينكر، ثم تُطوى الصفحة، ويبدأ يوم جديد، وهكذا يصحح «السستم» أو النظام نفسه بنفسه، وهكذا يرى المجتمع ذاته بحسناتها وسيئاتها في مرآة النقد. بعض الساسة يخرج من الأزمة بشكل قوى، ويقف أمام أسئلة الشعب بشجاعة ويدافع عن وجهة نظره، والبعض يخاتل فيُهزم، والبعض يقرر الخروج من المسرح بعد اعتراف كَنَسِيّ تطهُّري.

في هذه الأجواء النقدية التصحيحية التطهرية، سمِّها ما شئت، لا توجد معلومة محجوبة، لزوم الخصوصية كما يقال، أو لأن الشعب غير مؤهل لها، ولا توجد تصريحات إعلامية عن نزاهة اللجنة أو استقلاها، لمجرد الاستهلاك العامي ومداعبة الحكة الجلدية الجماعية! بل هي كلمات تعني معانيها الحقيقية، وليست مجرد صور مجازية أو بلاغية يطلقها الإعلام العربي على لجان التحقيق والمساءلة والعدالة والنزاهة، في عالمنا العربي العجيب!

نفس الشيء حصل مع تقرير لجنة «فينوغراد» الإسرائيلية التي كُونت بعد حرب تموز الإسرائيلية في لبنان عام 2006، حيث قال حزب الله اللبناني، بكل اللغات والأساليب، إنه انتصر نصرا ربانيا مؤزرا، وهزم الجيش الإسرائيلي، واعدا بالمزيد من جولات النصر الإلهي، لكن في الجانب الإسرائيلي، ورغم شراسة الجيش الإسرائيلي وفداحة الخسائر التي ألحقها بحزب الله، وبالمدنيين اللبنانيين في جنوب لبنان ومنطقة الضاحية، وكل أماكن القاعدة الشعبية له، ورغم تسوية الضاحية بالأرض، وقتل عناصر مهمة من ميلشيا الحزب الإلهي، رغم كل ذلك، فإن الأهداف التي وضعها المخطط الإسرائيلي للحرب لم تنجز كما أُريدَ لها، فورا تكونت اللجنة ومارست نقدا ذاتيا قاسيا على الإسرائيليين، وصوبت سهام النقد إلى الجيش الإسرائيلي، وقالت إن ما حصل هو خيبة كبيرة للإسرائيليين، وقل ما شئت من عبارات النقد الحادة.

كيف تَلقّى الجانب العربي، واللبناني خصوصا، وحزب الله ومن يدور في فلكه بشكل أخص، هذا التقرير النقدي القاسي الذي أصدرته لجنة فينوغراد؟

تَلقّوه بالبِشر والفرح والشماتة مع شيء من الزهو بالذات والفخر بالقدرات الاستثنائية، على طريقة: «والحقُّ ما شهدَت به الأعداءُ»! ولاحظنا حسن نصر الله وساسة وألسنة حزب الله وحلفائه يلهجون باقتباس عبارات النقد للجيش الإسرائيلي التي حفل بها تقرير فينوغراد.

ربما كان كل ذلك مبررا، باعتباره سلوكا طبيعيا «للمنتصر» ومن حقه أن يفرح ويرقص، لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان على الطريقة العربية الإسلامية المعتادة، كان نوعا من خداع الذات وإعادة إنتاج الصورة بالشكل المراد، كان ذلك كله حفلة «تكاذب عامة» في الإعلام العربي، إلا القليل من هذا الإعلام، وببساطة كل السؤال الذي وجهه بعض، بعض قليل، من الكتاب العرب إلى الحزب الإلهي ومن صفق له في حرب الصيف أو مغامرة الصيف هو: وماذا عن إنشاء لجنة فينوغراد لبنانية؟! أليس ذلك امرا مستحقا، حتى نكمل النصر على إسرائيل في الميدان العسكري والميدان الأخلاقي السياسي أيضا؟ أي أن نكون أشجع من الإسرائيليين في مواجهة الذات وشجاعة النقد.

لقد قيل الكثير عن دمار لبنان وضحاياه، وقيل الأكثر عن اختراق حزب الله أمنيا، وقيل عن قتل عناصر فعالة من قواته الخاصة والعامة، وغير ذلك قيل، لكن كانت آلة حزب الله الإعلامية ومن معها تصوب سهام التخوين والفت في العضد والتخذيل والعمالة لإسرائيل، كلها سهام كانت تصوب إلى من يطرح هذه الأسئلة المتولدة من دخان الحرائق والدمار في الضاحية والجنوب اللبناني، في حين أن القيادة الإسرائيلية لم تتهم المواطن الإسرائيلي الذي طالب بالكشف عن الحقائق في حرب تموز بالخيانة وطعن الجيش الوطني من الظهر! فكرم الاتهامات الكبرى في النهاية هو خصوصية عربية.. تقريبا!

إسرائيل متعودة على هذا النوع من النقد الذاتي وهو جزء أساسي من فعالية الحياة السياسية في إسرائيل، والأمر ليس نابعا من تفوق أخلاقي فطري لدى الإنسان الإسرائيلي بقدر ما هو طريقة تفكير واقعية ونظام سياسي فعال ينطوي في بنيته على آليات التصحيح الذاتي، فكلنا يتذكر لجنة «إغرانات» للتحقيق في أسباب الفشل في حرب 1973 ولجنة «كاهان» للتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا 1982. وأخيرا لجنة «فينوغراد» حول حرب تموز اللبنانية.

هي في هذا السلوك التصحيحي تشابه الدول الغربية المعرقة ديمقراطيا، ولذلك نشأت لجنة تحقيق وتقصٍّ كبرى في أميركا حول هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، لا مجال للإخفاء والتلاعب، وحتى لو نجح بعض الساسة في إخفاء الحقائق أو جزء منها، فإن الفضول الصحافي لهم بالمرصاد، لا يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها، الشفافية هي القانون العام، وفعلا هناك تنطبق مقولة: «حبل الكذب قصير»، لكن في عالمنا العربي حبل الكذب بلا نهاية، وأحيانا بلا بداية!

ومنعا للإحراج العام، أستعرض فقط محطات سريعة في كيفية تصرفنا أمام كوارث العرب الكبرى في العصر الحديث: تسليح الجيش المصري في حرب 48، انقلاب عبد الناصر على نجيب، حرب السويس، والكارثة الكبرى: هزيمة 67، هل حققت فيها لجنة على غرار لجنة فينوغراد وطنية؟ وقل مثل ذلك عن حرب إيران والعراق، هل أجرى أحد النظامين مراجعة وتحقيقا في هذه الحرب؟ كل من جانبه، هل أجرى صدام حسين بعد غزوه للكويت مراجعة للذات وقامت لجنة تحقيق فعلية لتحديد الأخطاء والإخفاقات في هذه الحرب؟ وحرب أفغانستان ودور الدول العربية فيها خصوصا دول الخليج.. هل قامت مراجعة نقدية حقيقية حولها؟

طبعا لم تقم لجان تحقيق فعلية في كل هذه المحطات الكبرى، لأنها لو قامت لما كان هذا حالنا، فنحن كعرب نحب «التكاذب العام» ولا نطيق النقد، من قمتنا إلى قاعدتنا، وكما تكونون يولَّ عليكم كما قيل.

أخيرا يذكّرني الفرحون بـ«مرمطة» بلير في لجنة التحقيق البريطانية حول حرب العراق، بالنكتة التي تُروى أيام الحرب الباردة بين السوفيات والأميركان، يقال إن أميركيا قال لروسي: «نحن لدينا ديمقراطية حقيقية في بلدنا، فنحن نستطيع نقد وشتم الرئيس الأميركي دون أي ضرر»، فرد عليه الروسي: «ونحن كذلك لدينا ديمقراطية فنحن نستطيع شتم الرئيس الأميركي»!

[email protected]