كوارث وفواجع عدم التوقع.. من عبد الناصر إلى أوباما

TT

وجدتُ نفسي بعدما قال الرئيس باراك أوباما يوم الجمعة 22 - 1 - 2010 في مقابلة أجرتها معه مجلة «تايم» ما معناه، إنه لم يتوقع هذه المشكلات من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في ما يتعلق بمشروعه للتسوية وأنه «لو شعرنا بمثل هذه المشكلات في الجانبين في وقت مبكر لما رفعنا سقف التوقعات»، أستحضر بعض حالات عدم التوقع من جانب قادة كبار، تسبب عدم التوقع من جانبهم بكوارث وفواجع.

أبدأ بالرئيس جمال عبد الناصر، رحمة الله عليه، الذي لم يتوقع أن يتسبب قراره بسحب القوات الدولية في عدوان إسرائيل عليه، وافترض أن الأمين العام للأمم المتحدة يوثانت سيقول له عندما يطلب ذلك، ما معناه إن من الأفضل التريث واعتبار الطلب وكأنه لم يتقدم به، أي أنه مثل الاستقالة يتقدم بها مسؤول في لحظة غضب أو نتيجة خطأ، لكن المسؤول الأعلى يطويها ويضعها في الأدراج، وبذلك يكون قد حقق هدفين في وقت واحد، احتفظ بالمسؤول صاحب الاستقالة الذي سيصبح أكثر ولاء وورقة في يده تنفع في صراعات القوى، وجعل من صاحب الاستقالة رهينة لا يرد له طلبا في حالات التصويت على قرارات صعبة.

إلى ذلك افترض عبد الناصر أن الدول الكبرى بجناحيها الغربي والشرقي، ولدى كل جناح بمجموع دوله حيثياته في الموقف الذي سيتخذه، لن تترك إسرائيل ترتكب الحماقة الحربية التي تتسبب في تعقيدات وإحراجات دولية، وأنه بذلك يكون قد كسب جولة أو نقطة في لعبة سياسة حافة الهاوية.

ودليلنا على ما افترضه عبد الناصر متوقِّعا ألا يكون هنالك رد عليه، وأي رد كان الرد! أنه بعدما تزايدت صيحة الاستنجاد به من جانب الحكم السوري حول احتمال عدوان إسرائيلي على سورية ارتأى تحريك قوات إلى سيناء وأيضا مع عدم التوقع بأن يؤدي هذا التحريك إلى حرب من جانب إسرائيل لا على مصر ولا حتى على سورية على أساس أن الصديق الاستراتيجي السوفياتي لن يسمح بذلك، وما دام هذا هو الاحتمال، فإنه يكون بالتحريك قد قدم واجبا قوميا إلى سورية يجعل أهل الحكم والشعب معا يستحضرون لحظة الانفصال التي حدثت، وكيف أن الرأي العام السوري لم يقاوم الانفصاليين وارتضى الوضع الناشئ عن انقلاب بالغ السهولة ألقى ظلالا كثيفة على مهابة عبد الناصر ومشروع الوحدة.

ونتساءل ونحن نقول ذلك، كيف أن عبد الناصر لم يتوقع الحرب نتيجة تحريك القوات لتخفيف الضغط على سورية مع أن إسحاق رابين رئيس أركان الجيش الإسرائيلي زمنذاك كان واضحا في تهديده يوم 12 مايو (أيار) 1967 المتمثل بقوله: «إننا سوف نشن هجوما خاطفا على سورية وسنحتل دمشق لنسقط الحكم فيها ثم نعود»، ومع أن ليفي اشكول رئيس الوزراء قال أيضا: «إن إسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ضد سورية» وأن وزير الخارجية أبا إيبان طلب من سفراء إسرائيل في الخارج بأن يبلغوا المسؤولين لدى الدول التي لهم سفراء فيها «بأن إسرائيل قد تضطر لاستخدام القوة ضد سورية».

كذلك نتساءل: كيف أن عبد الناصر لم يتوقع أن تنتهي إلى مواجهة ضد مصر، تلك الخطوة المتمثلة بإعلانه حالة الطوارئ في الجيش، وإرسال رئيس الأركان الفريق محمد فوزي إلى دمشق لتفقد الوضع والتشاور، وكذلك يطلب المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة المصرية من رئيس الأركان الفريق فوزي إرسال خطاب إلى الجنرال ريكي قائد قوات الطوارئ الدولية في قطاع غزة وشرم الشيخ (وهذا خطأ بروتوكولي لأن الخطاب يوجه من وزير خارجية مصر إلى الأمين العام للأمم المتحدة) لكي يبلغ، أي الجنرال ريكي، الأمين العام يوثانت بأن مصر قررت سحب قوات الطوارئ الموجودة على الحدود المصرية مع إسرائيل، وأن رد الأمين العام كان صادما، حيث قال إنه لا يستطيع سحب القوات الدولية من منطقة الحدود وتركها في شرم الشيخ وقطاع غزة، وإنه مضطر لسحب كافة القوات في غزة وسيناء بالكامل وإبلاغ الجمعية العامة بذلك.

هنا بات من مصلحة عبد الناصر أن يتوقع الحرب وليس ألا يتوقع، لأن دخول القوات المصرية إلى شرم الشيخ يعني منع إسرائيل من الملاحة في خليج العقبة، صحيح أنه أراد بتحريك القوات وما استتبع ذلك من تخفيف ما يمكن تخفيفه من التهديد الإسرائيلي لسورية، لكن يوثانت بمنطق الصلاحية الدولية التي لا تحتمل اجتهادات تصرف بما يحقق لإسرائيل توجيه ضربة إلى مصر لأن عبد الناصر هو هدفها الأساسي قبل سورية.

وعلى الرغم من أن مصلحة مصر والنظام التراجع عن الخطوات التي اتخذها، أي إعادة القوات التي تم تحريكها والاكتفاء بالسعي السياسي والتأييد المعنوي لسورية، فإن خشيته من تداعيات التراجع وما يمكن أن يقوله الشعب المصري وشعوب الأمة قاطبة عنه جعله يتراجع نصف تراجع، وذلك بقبوله مشروع تهدئة من يوثانت يتضمن عدم مزاولة مصر حق تفتيش السفن التي تمر عبر مضيق العقبة.

ويعني يوثانت بذلك سفن إسرائيل، كما أن نصف التراجع شمل سؤالا من يوثانت وجوابا من عبد الناصر، طلب الأمين العام من الرئيس المصري أن يعده بأن مصر لن تهاجم إسرائيل، ورد عبد الناصر بعبارة: «نحن لم نعلن في أي وقت بأننا سنهاجم إسرائيل، إن إسرائيل هي التي هددت رسميا بغزو سورية وما نفعله هو إجراء دفاعي لمنع هذا التهديد».

بعد الذي حدث صباح يوم 5 يونيو (حزيران) 1967، لم يعد مقنعا على الإطلاق أن عبد الناصر بنى تقديراته على أساس أنه لا يتوقع حربا من إسرائيل على مصر، فالذي مكانه في القمة مطالَب بأن يتوقع ما دام هو صاحب القرار، وعندما تكون المؤشرات بالخطر حاضرة في المشهد أمامه لا تعود المسألة مجرد تخمينات ولا هي افتراضات، وهو لو توقع لكان قد تفادى الكارثة التي حفرت تداعياتها في نفوس المصريين وأبناء الأمة.

وعبد الناصر ليس القائد العربي الكبير الذي يتصرف على أساس أنه لا يتوقع، ذلك أن الرئيس الخلَف أنور السادات لم يتوقع انصراف نصف الأمة عنه بسبب إبرامه اتفاقية سلام مع إسرائيل من دون أن يتشاور أو يستشير، بل إنه عندما بنى قراره على زيارة القدس ومخاطبة الإسرائيليين من على منبر الكنيست، كان يفترض حدوث ما لم يحدث من تطورات، فهو لم يتوقع أن تقرر الدول العربية معاقبة مصر بتعليق عضويتها في الجامعة العربية وإسقاط أنواع من الحُرم على تجارها وصناعاتها وفنانيها ومطربيها وصحافتها، بدل أن يسير الحكام العرب بدءا بالرئيس ياسر عرفات في موكبه، على أساس أنه طوى صفحة الحرب وبدأ الكتابة في صفحة السلام ينشر الازدهار في ربوع أقطار الأمة.

وفي تقديري، أنه لو توقع التداعيات وافترض حدوث الأسوأ بدل الأحسن لما كان ألقى خطابه الشهير في مجلس الشعب وبحضور ياسر عرفات، ولو توقع لكان شاور وناقش وارتضى الأخذ بالأحوط، ولكان ما زال إلى الآن يحكم مصر ويملك حتى القدرة على توريث وحيده جمال باعتبار أنه ابن بطل النصر عام 1973، الذي خفف من أوجاع الهزيمة عام 1967، ولكن إصراره على تلبية الدعوة الرسمية التي وجهها إليه مناحم بيغن يوم الثلاثاء 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 وقيامه يوم السبت 19 نوفمبر بزيارة إسرائيل، وكان ذلك عشية عيد الأضحى (مع أن مناسبة الأضحى تُوجب عليه أن يكون في مصر وليس في إسرائيل مع ملاحظة حرصه على تأدية صلاة العيد في المسجد الأقصى)، وضعه هدفا للذين قرروا اغتياله يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، وهو جالس في منصة الاحتفال بذكرى الانتصار على إسرائيل عام 1973. وأما الرئيس صدام حسين الذي شنقه الاحتلال الأميركي صبيحة الأضحى أيضا من دون التنبه من جانب المحتلين وأهل الحكم العراقي إلى مهابة المناسبة وحساسيتها دينيا، فإنه هو الآخر بنى حساباته عندما غزا الكويت على أن حكام دول المنطقة سيعتبرون المسألة مجرد أمر واقع حصل، ويتعاملون مع الرئيس الذي غزا، كما بنى حساباته على أن أميركا التي غضّت سفيرتها أبريل غلاسيي الطرف مع أنها رمت الطُعم لكي تعلق الزعامة العراقية بالصنارة، لكنه قرأ كلامها على نحو ما يحب، وليس على نحو ما تقصد أو تنوي أو تضمر شرا به، سترتضي برئيسها وكونغرسها وبنتاغونها الواقع الجديد وتتعامل معه، وعندما قال أمام أحد زواره بعد شهرين من الغزو، إنه لو كان يتوقع من العرب والمجتمع الدولي الموقف الذي تم اتخاذه معه لما كان غزا، فإنه بذلك كان مثل عبد الناصر الذي لم يتوقع ومثل السادات الذي لم يتوقع هو الآخر.

كما أن الأربعة الكبار الذين أوردنا وقائع حول ما فعلوا على سبيل المثال لا الحصر وهم، باراك أوباما، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وصدام حسين قد ينضم إليهم الرئيس الخامس محمود أحمدي نجاد في حال ذاب الثلج وباتت السماء الإيرانية والخليجية عموما الربيعية صافية، وقرر المجتمع الدولي تحويل المنطقة إلى براكين وساحة منازلة لكل أنواع صواريخ التدمير الشامل، ونقول ذلك على أساس أن الرئيس نجاد وحرس إيران الثوري والمرشد آية الله خامنئي.. أي المثلث الذي يملك قرار المواجهة لا يصغي إلى تمنيات الإصلاحيين، لأنه لا يتوقع أن يتجرأ على إيران أحد، وقد نجد في حال حدث ذلك لإيران ربيع 2010 الرئيس نجاد يقف خطيبا ليقول، إنه لو كان يتوقع أن يرتكب المجتمع الدولي هذه الحماقة لما كان عاند في الموضوع النووي، وعلى نحو ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله صيف 2006 بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان من أنه لو كان يتوقع أن إسرائيل ستقوم بهذا العدوان ردا على خطف جنديين إسرائيليين لما كان لعملية الخطف أن تتم.

وخلاصة القول، إن عدم التوقع من جانب القادة الكبار، وأحدثهم باراك أوباما، الذي لم يتوقع أن تخذله إسرائيل في سعيه لتحقيق التسوية بقيام دولة فلسطينية قابلة للعيش إلى جانب دولة إسرائيل، لا يبرئ هؤلاء من تحميلهم المسؤولية أمام الله والأوطان والشعوب، أما عدم توقع بوش (الابن) بما آل إليه عدوانه مع شريكه توني بلير على العراق، فهذا نوع من أنواع الجريمة المنظمة، خصوصا أن سيناريو العدوان كان مبنيا على الاختلاق والتهيؤات، لا سامحهما الله ولا غفرت لهما شعوب الأمتين.