اعتذار حماس

TT

لا يكاد يمر يوم من دون أن تزعج مسامعنا أصوات المدفعية الثقيلة المتبادلة في الحرب الكلامية المحتدمة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، وهى حرب صارت تعلو على كل ما عداها في الساحة الفلسطينية، حتى طغت على هموم المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره بين وطأة الاحتلال وقسوة التمزق الداخلي والمعاناة المتصاعدة، خصوصا في قطاع غزة. ويخال للمرء أحيانا أن الفلسطينيين حرروا أراضيهم ونالوا كل حقوقهم المشروعة وحققوا تنمياتهم ولم يعد هناك ما يشغلهم فانصرفوا بالكامل إلى العراك السياسي الداخلي وإلى المناورات التي تهدف فقط للحصول على السلطة بأي ثمن أو الحفاظ عليها بغض النظر عن أي تكلفة.

آخر فصل من فصول حرب طواحين الهواء هذه هو تبادل الاتهامات حول ما نسب إلى حماس من أنها اعتذرت عن مقتل عدد من المدنيين بسبب صواريخها التي أطلقتها على إسرائيل. وسارعت حركة فتح لمطالبة حماس بأن تعتذر للشعب الفلسطيني عن مقتل المئات خلال سيطرتها على قطاع غزة. وردت حماس على ذلك بنفيها تقديم اعتذار عن مقتل مدنيين إسرائيليين، ثم بقولها على لسان محمد فرج الغول وزير العدل في حكومة هنية المقالة، إنه يجب التفريق بين موقف الحكومة وموقف حماس والمقاومة.

الواقع أن حماس اعتذرت عن إصابة ومقتل مدنيين إسرائيليين بفعل صواريخ المقاومة، وإن حاولت تجنب كلمة اعتذار واستخدمت بدلا منها كلمة «نأسف». فبالعودة إلى نص التقرير الذي أرسلته حكومة هنية إلى مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بشأن استفساراته حول تطبيق توصيات تقرير غولدستون، يجد المرء الجمل التالية: «ما أصاب المدنيين في إسرائيل ليس مقصودا من جانب المقاومة»، «ولذلك فإننا نأسف لما قد يكون أصاب أي مدني إسرائيلي»، كما تؤكد الحكومة «المقالة» في الرسالة التي وقعها محمد فرج الغول بصفته وزير العدل ورئيس لجنة متابعة توصيات تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، على أن موقفها الثابت هو «ضرورة تجنيب المدنيين والمؤسسات المدنية أعمال المقاومة».

وحماس لم تعتذر أو تأسف فقط، بل توصلت إلى هدنة بوقف إطلاق الصواريخ، واعتقلت كل من حاول خرق هذه الهدنة. وبدلا من محاولة التملص والمراوغة بالحديث عن «صياغات أسيء تفسيرها»، كان من الأجدى للحركة أو لحكومتها أن تقر بموقفها وتقول إنها فعلت ذلك حماية للمواطنين في غزة الذين يدفعون ثمنا باهظا كلما سقط صاروخ على إسرائيل. لكن مشكلة حماس أنها دخلت دوامة مزايدات مع السلطة الفلسطينية، وحاولت تصويرها على أنها باعت القضية، وأن حماس وحدها هي المقاومة وهي الأحرص على حقوق الفلسطينيين، وبالتالي يصعب عليها (أي حماس) أن تقر اليوم بأنها «تأسف لما أصاب أي مدني إسرائيلي»، أو أن تقول إنها أوقفت الصواريخ وعقدت هدنة مع إسرائيل. وبهذا تظهر حماس كمن يريد السلطة ولكنه لا يريد تحمل مسؤولياتها، وفي مقدمتها المسؤولية عن أرواح المواطنين، وعن أمنهم وغذائهم.

إن حماس لا تحتكر المقاومة، كما أنها لن تستطيع إلغاء تاريخ فتح وكل الفصائل في المقاومة التي امتدت عقودا كثيرة قبل أن تظهر حماس على الساحة. وفي المقابل فإن السلطة الفلسطينية لن تستطيع تجاهل واقع وجود حماس، أو القول بأن الحركة ليس لديها أي رصيد بين الفلسطينيين. فسياسات الإلغاء والاجتثاث لن تحقق للفلسطينيين نصرا أو تعيد لهم حقوقا. ولا يختلف اثنان على أن من أهم أسباب الضعف الحالي هو الانقسام الفلسطيني الذي سهل لإسرائيل وقف المفاوضات وفرض المزيد من الشروط ومواصلة سياسات الاستيطان وفرض الأمر الواقع. ومن العبث محاولة إلقاء اللوم على إدارة أوباما في عدم استئناف المفاوضات أو تحقيق اختراق لصالح الفلسطينيين، وكأن المطلوب من هذه الإدارة أو من غيرها أن تكون أحرص على الفلسطينيين من أنفسهم. فلا الموقف العربي ولا الموقف الدولي يستطيعان القيام بتحرك جدي يدعم المطالب المشروعة ما لم يوحد الفلسطينيون مواقفهم وصوتهم. ومسؤولية حماس في ذلك واضحة لأنها هي التي تعطل المصالحة من أجل مطالب لا يمكن أن تعلو على هموم الفلسطينيين ومعاناتهم، أو حسابات لا تتطابق بالضرورة مع حسابات واحتياجات الشارع الفلسطيني.

[email protected]