ما بعد جرأة سعد الحريري

TT

جرأة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري واعترافه في مقابلة لتلفزيون «بي بي سي»، بوقوع أخطاء أثناء محاولة إنقاذ ركاب الطائرة الإثيوبية التي سقطت بعد دقيقتين أو ثلاث فقط، بعد إقلاعها من مطار رفيق الحريري الدولي، كانت أكثر من ضرورية. والأهم أن تعترف الحكومة مجتمعة بمجمل الأخطاء التي ارتكبت، مع تحديد المسؤوليات، وهذا ليس لقطع رأس أي من الوزراء أو الانتقام من فريق سياسي بعينه - كما جرت العادة - وفتح سجالات عقيمة، وإنما لجعل مثل هذه كارثة، خاتمة لعجز مؤسسات الدولة - بصرف النظر عمن يديرها - عن القيام بواجباتها الإنقاذية تجاه المواطنين.

فالمراقب ليس بحاجة لكبير حنكة كي يتساءل: لماذا لم تتمكن فرق إنقاذ الدفاع المدني من التدخل والبدء في انتشال الضحايا قبل السادسة صباحا، ولم يبدأ البحث أصلا قبل الخامسة فجرا، فيما سقطت الطائرة عند الثانية والنصف؟ بمعنى أن الوصول إلى ما يعتقد أنه مكان الطائرة التي بالكاد أقلعت من المدرج، تطلب ساعتين ونصف الساعة، وهو ما قاله رئيس وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني، بوضوح كامل أكثر من مرة، علما بأن جثثا كانت تطفو على سطح البحر.

الأمر الثاني الذي يثير الغرابة هو قول وزير الصحة اللبناني جواد خليفة لأحد مراسلي التلفزيون، إنه أثناء جولته مع مسؤولين آخرين بالهليكوبتر بعد سقوط الطائرة الإثيوبية، تمكن من التقاط صورة بجواله تظهر آثارا للطائرة في المكان الذي وقعت فيه، ثم يفتح الصورة ليرينا إياها، وتبعا لهذا الاعتراف الخطير، لا يفهم على الإطلاق، لماذا تأخر العثور على البقعة التي حصلت فيها الحادثة ما يقارب أسبوعين بعد التقاط معاليه للصورة التاريخية؟

يحرق قلوب الأهالي أيضا أن حطام الطائرة وجد، بعد 15 يوما من الحادثة، على بعد 3 كلم من الشاطئ، وعلى عمق 45 مترا. وهو ما توقعه نقيب الغطاسين، وغطاسون آخرون منذ اليوم الأول، مطالبين بالسماح لهم بالتفتيش في مناطق بحرية يعرفونها جيدا وسبروا أغوارها على مدى سنوات طوال، فيما البواخر الغربية التي أعطيت كل الثقة، إيمانا بتكنولوجيتها المتطورة، وعملا بمقولة «كل فرنجي برنجي» لا معرفة لديها بقيعان لبنانية لها تجاويف الجبال والوديان. واعتمدت السفن الإفرنجية المجلوبة للمساعدة، في بحثها على آلات، ثبت في النهاية، أنها شبه عمياء بعدما أعلنت عن وجود الطائرة على ببعد 10 كلم وبعمق 1300م، وهو ما تبين أنه مناف للصواب. والنتيجة أن الأهالي حرموا لغاية اليوم من العثور على غالبية المفقودين، فيما تحولت الجثث إلى أشلاء وأجزاء، لا تسمح بوداع أو تعرف على حبيب.

ربما أن نجاة أي من ركاب الطائرة كان مستحيلا منذ البداية. لكن الوقت من ذهب في زمن الكوارث، وقد أهدرت الأيام والساعات، ليس عن سوء نية، وإنما من قلة التدبير وغياب التحضير، واللهو بالهذر العقيم، وتبين أن وزير الداخلية، كان واحدا من قلة نادرة، فكروا في كارثة محتملة ودرّب، لحسن الحظ، فوجا صغيرا للإنقاذ من الدفاع المدني قبل أربعة أشهر، أثبت فاعلية وعملا بلا كلل.

وبالعودة إلى ما قبل كارثة الطائرة بساعات، لن نعثر على ألسن الوزراء والنواب إلا في ثرثرات وتصريحات حول تقسيم المناصب وملء شواغر وظائف الدولة، وخلافات حول إلغاء الطائفية السياسية، وكلام بلا طعم أو رائحة عن إصلاحات للانتخابات البلدية، لا شك أنهم لن يصلوا إلى إقرار في الكثير منها، لأن أي تغيير في لبنان لا بد أن يصطدم بمصلحة طائفة ما.

وبعد الكارثة، لا بل قبل الانتهاء من لملمة أشلائها، بات الخلاف أفظع، وانحدر ليبلغ الأعياد، وهل الاحتفال بعيد مار مارون في لبنان أجدى أم في مكان ولادة وإقامة شفيع الطائفة المارونية في حلب؟ وكم بمقدور سورية أن تستفيد وتستثمر احتفال جزء من الموارنة بعيدهم في ديارها؟ كلام في السياسة مشروع لو أنه يسير إلى جانب العمل الدؤوب، لكن الاكتفاء بالكلام على حساب الأفعال، لا بد من أن يوصلنا إلى ما بلغناه، حيث لم يعد وزير الصحة يملك أكثر من استجداء رجال الدين، أن يتدخلوا لمساعدة الأهالي المنكوبين على تحمل مصيبتهم، وأن يقوموا بواجبهم الروحي لإخراجهم من محنتهم، وقد أصبح انتشال الجثث كارثة أخرى تضاف إلى الأولى بعد أن تحللت وتشوهت، بفعل الانتظار في القاع بعد الصدمة وتحطم العظام.

إنها الطائرة الأولى التي يبتلى لبنان بوقوعها في أراضيه، لكنها نموذج لمصائب كثيرة قد تقع؛ إسرائيل تهدد على الحدود، والأخبار عن نزوح سكان مستوطناتها الشمالية مؤرق، لبنان في قلب خط الزلازل السياسية والجيولوجية، واهتزازات الأرض ليست مستبعدة، غرق بواخر بسبب ازدياد وعورة الطقس محتمل أيضا، بقاء الفوضى على حالها، ينذر بعواقب لا يريدها أحد.

أكد الحريري مشكورا منذ ثلاثة أيام، أنه سيطلب المساعدة، من أجل انتشال ما تبقى من أشلاء البشر والطائرة، من أي كان، مهما كان عدد البواخر التي ستستعين بها الدولة اللبنانية وتدفع أجرها، معلنا استعداده لدفع أجرها من ماله الخاص. وهو ما يدل على تفان صادق ومخلص من رئيس للوزراء يعتبر نفسه معنيا شخصيا بالكارثة. لكن يخشى أن يكون الوقت قد تأخر كثيرا، بعد صرخة وزير الصحة المدوية، الذي أوحى أن وضع الأشلاء بلغ حالة يصعب التعامل معها وعلى السياسيين أن يتخذوا قرارا حاسما. مما يوحي بأن البحث بات صعبا وعلى الأهالي أن يسلموا بقدرهم.

صحيح أن الوزراء المعنيين لم يناموا منذ وقعت الكارثة - كما يقول الحريري - ومعهم مغاوير البحر. لكن ما هو مطلوب الآن أن يبقوا على يقظتهم الضميرية، بعد الكارثة، كي لا يكون تكرار مثيلاتها حتميا. وبما أنه «ما حك جلدك مثل ظفرك»، فاستنفار وحدات الإنقاذ الذاتية والتزود بمعدات وآلات محلية للنجدة، هو وحده الكفيل بالتدخل السريع والفعال، لحظة تكون الأرواح معلقة بين الحياة والموت. أما انتظار وصول المساعدات من وراء المحيطات، لحظة يطلب المواطنون النجدة، فهذا أمر يفتقر للحد الأدنى من الجدية.